23 يناير 2020
دروس حلب
تشتدّ المعارك، وما تزال، في مدينة حلب المنكوبة، منذ نجاح قوات النظام وحليفيه، الروسي والإيراني، بقطع طريق الكاستيلو في أوائل الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، وفرضهم الحصار على أحياء حلب الشرقية التي خضعت لسيطرة المعارضة، منذ العام الثاني للثورة السورية. وكان شديد الوضوح أن ذلك لم يكن ممكناً، لولا التدخل الروسي الكبير، منذ أواخر العام الماضي، وقيام أسطوله بقصفه الجوي الكثيف مواقع المعارضة وخطوط إمدادها باستمرار.
زادت تلك المعارك في جحيم حياة سكان المدينة القديمة وأحيائها الشعبية، من باب الحديد، وباب النصر، وباب النيرب، وباب قنسرين، والمعادي، والمغاير، والأنصاري، والميسر، والجزماتي، والقاطرجي، والسكري، والمواصلات، والصاخور، والفردوس، والصالحين، وبني زيد، والخالدية، وجسر الحج، ومنطقتي الشقيف والسكن الشبابي، وهم حوالي 400 ألف مدني، وجعلت من أوضاعهم كارثةً إنسانيةً، لا يتسع المجال لرواية آلافٍ من قصصها اليومية التي لا تشمل ضحايا القصف والنيران فقط، بل ضحايا الانهيارات والجوع والمرض، وكل ما ينجم عن نقص المواد الغذائية والصحية، أو فقدانها بطبيعة الحال. لكن ذلك كله كان خارج حسابات النظام وحلفائه الذين تابعوا استثمار تقدمهم، بغرض فرض حل استسلامي يقلب التوازن العسكري المستقر في حلب منذ أكثر من سنتين، ويطيح الاتفاقات الدولية وقراراتها التي ما تنفك تعلن السعي إلى حل سياسي، لا يستقيم أمره بدون تفاوض. وقد اندرج ذلك في إطار إصرار الراعي الروسي على تطويع مراحل مفاوضات جنيف، في ظل تسليمٍ أميركي ودولي لرعايته، وفرض مندوبيه ومندوبي النظام ضمن وفد المعارضة، بغرض إنقاذ نظام الأسد، وإدراج كل مشاريع الثورة في إطار رؤيته لمكافحة الإرهاب، واستثمار الفوبيا الرائجة ضده على مستوى المنطقة والعالم.
ففور قطع طريق الكاستيلو واستكمال الحصار، لجأ النظام إلى استغلال ذلك بعقلية المنتشي بالنصر، وذلك بدعوة المقاتلين إلى الاستسلام، تحت ستار العفو عنهم، وفتح ممرات آمنة للمدنيين الراغبين بـ "العودة إلى حضن الوطن". كما دعا الناطق الرسمي باسم وزارة الدفاع الروسية نفسها "المسلحين" التابعين لفصائل المعارضة السورية إلى التخلي عن السلاح، والخروج من أحياء مدينة حلب الشرقية، كما أعلن عن فتح معابر إنسانية بين أحياء حلب الشرقية والغربية، لتسهيل عملية خروج "المدنيين المحاصرين" إلى جانب المسلحين الراغبين بتسليم أنفسهم إلى قوات النظام.
هذا الانتشاء الانتصاري، والمخلّ بالخطوط الحمر المضمرة، سرعان ما واجه موازين القوى الكامنة، والتي ظهر أنها استعادت فاعليتها، ربما بعد تفرّغ الدولة التركية، وتوحد قيادتها العسكرية إثر فشل الانقلاب. لكن، بالتأكيد بعد يقظة المعارضة أخيرا، وتمكّنها بصورة مفاجئة من لملمة شملها، وتوحيد صفوفها عبر غرفة عمليات موحدة، ما أدى إلى تحقيق انتصاراتٍ عسكريةٍ مضادة، شملت بعض قطاعات سيطرة النظام في جنوبي حلب، وأشارت إليها عمليات بدء تحرير مدرستي المدفعية والمشاة. وعلى الرغم من بقائها، حتى تاريخه، في حدود الكر والفر، فقد قلبت حسابات معسكر النظام وحلفائه، بل وهدّدت بقلب ميزان القوى العسكرية في باقي مناطق حلب ومواقع النظام الأكثر تحصيناً.
ويبدو أن المعارضة أدركت أهمية المجالين السياسي والإعلامي، فبادرت إلى استثمار نجاحها
العسكري، حين أعلن بيان لغرفة عمليات جيش الفتح وجميع الفصائل المشاركة في تحرير حلب "رسالة إلى كل الأهالي وكل القاطنين في محافظة حلب من جميع الطوائف والأحزاب، وإلى المرتزقة والمحتلين الذين جاءوا ليغزوا بلادنا: نحن أهل البلد، أهل بلاد الشام وأصحاب أرض وعرض وأصحاب حق في الدفاع عن بلادنا وشرفنا ودحر العدو المحتل عن أرضنا وأهلنا. وهذا هو إسلامنا وديننا، إليكم هذا البيان: من دخل بيته فهو آمن، ومن دخل مسجداً فهو آمن، ومن دخل كنيسةً فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن. أسوة بفتوحاتنا ورسولنا العظيم، نحن مجاهدون، ثوار، طالبو حرية ولسنا هواة قتل. ..."
وهو بيانٌ يتناقض مضمونه مع ما نشر من إطلاق تسميةٍ تستعيد ذكرى سوداء في تاريخ سورية، لم يستفد منها سابقا سوى النظام نفسه. وإذا صدقت جرعة الوعي الصاحية في البيان، فسيعزز ذلك نجاح وحدتها العسكرية في مواجهة الحلف المتعاظم لمعسكر النظام، والتي سبق أن كانت سبباً حاسما في تحقيق انتصار إدلب، وكان غيابها السبب الأكثر وضوحاً في تراجع الثورة وانتكاساتها في أكثر من جبهة.
بذلك، يمكن أن تكون معارك حلب التي بدأت انطلاقاً من فك حصارها، وتخفيف معاناة أهلها، مفترق طريق جديدا للمعارضة، كي تستمر اندفاعتها، وتتابع تشكيل قيادتها الموحدة عسكريا وسياسيا لكل قوى الثورة والمعارضة. وبدلاً من أن تكون هذه الوحدة مؤقتةً وعابرة، فإن النجاحات التي بدأت تحقيقها، وفاجأت معسكر أعداء الثورة قبل أصدقائها، تؤكد أهمية استمرارها وتطويرها ومشاركة جميع جبهات الثورة فيها، ما يفتح الباب واسعاً أمام آمال استنهاض جديد لمشروع الثورة السورية، وهو مشروع انطلق أصلاً من قيم وطنية ودينية وأخلاقية رفيعة، وتقع على عاتق جميع المؤمنين به مسؤولية تنقيته من ردود الأفعال ونزعات الانتقام وآثار مآسي السنوات الماضية، وكل ما أحالت إليه أخطاء فردية، وانفعالات عاطفية، وردود أفعال غرائزية، طالما عمل النظام على إطلاقها، وترويجها، والاستفادة منها في تحصين معسكره. وها هي الشهباء تدعونا جميعا إلى دروسها، فهل نلبي النداء؟
زادت تلك المعارك في جحيم حياة سكان المدينة القديمة وأحيائها الشعبية، من باب الحديد، وباب النصر، وباب النيرب، وباب قنسرين، والمعادي، والمغاير، والأنصاري، والميسر، والجزماتي، والقاطرجي، والسكري، والمواصلات، والصاخور، والفردوس، والصالحين، وبني زيد، والخالدية، وجسر الحج، ومنطقتي الشقيف والسكن الشبابي، وهم حوالي 400 ألف مدني، وجعلت من أوضاعهم كارثةً إنسانيةً، لا يتسع المجال لرواية آلافٍ من قصصها اليومية التي لا تشمل ضحايا القصف والنيران فقط، بل ضحايا الانهيارات والجوع والمرض، وكل ما ينجم عن نقص المواد الغذائية والصحية، أو فقدانها بطبيعة الحال. لكن ذلك كله كان خارج حسابات النظام وحلفائه الذين تابعوا استثمار تقدمهم، بغرض فرض حل استسلامي يقلب التوازن العسكري المستقر في حلب منذ أكثر من سنتين، ويطيح الاتفاقات الدولية وقراراتها التي ما تنفك تعلن السعي إلى حل سياسي، لا يستقيم أمره بدون تفاوض. وقد اندرج ذلك في إطار إصرار الراعي الروسي على تطويع مراحل مفاوضات جنيف، في ظل تسليمٍ أميركي ودولي لرعايته، وفرض مندوبيه ومندوبي النظام ضمن وفد المعارضة، بغرض إنقاذ نظام الأسد، وإدراج كل مشاريع الثورة في إطار رؤيته لمكافحة الإرهاب، واستثمار الفوبيا الرائجة ضده على مستوى المنطقة والعالم.
ففور قطع طريق الكاستيلو واستكمال الحصار، لجأ النظام إلى استغلال ذلك بعقلية المنتشي بالنصر، وذلك بدعوة المقاتلين إلى الاستسلام، تحت ستار العفو عنهم، وفتح ممرات آمنة للمدنيين الراغبين بـ "العودة إلى حضن الوطن". كما دعا الناطق الرسمي باسم وزارة الدفاع الروسية نفسها "المسلحين" التابعين لفصائل المعارضة السورية إلى التخلي عن السلاح، والخروج من أحياء مدينة حلب الشرقية، كما أعلن عن فتح معابر إنسانية بين أحياء حلب الشرقية والغربية، لتسهيل عملية خروج "المدنيين المحاصرين" إلى جانب المسلحين الراغبين بتسليم أنفسهم إلى قوات النظام.
هذا الانتشاء الانتصاري، والمخلّ بالخطوط الحمر المضمرة، سرعان ما واجه موازين القوى الكامنة، والتي ظهر أنها استعادت فاعليتها، ربما بعد تفرّغ الدولة التركية، وتوحد قيادتها العسكرية إثر فشل الانقلاب. لكن، بالتأكيد بعد يقظة المعارضة أخيرا، وتمكّنها بصورة مفاجئة من لملمة شملها، وتوحيد صفوفها عبر غرفة عمليات موحدة، ما أدى إلى تحقيق انتصاراتٍ عسكريةٍ مضادة، شملت بعض قطاعات سيطرة النظام في جنوبي حلب، وأشارت إليها عمليات بدء تحرير مدرستي المدفعية والمشاة. وعلى الرغم من بقائها، حتى تاريخه، في حدود الكر والفر، فقد قلبت حسابات معسكر النظام وحلفائه، بل وهدّدت بقلب ميزان القوى العسكرية في باقي مناطق حلب ومواقع النظام الأكثر تحصيناً.
ويبدو أن المعارضة أدركت أهمية المجالين السياسي والإعلامي، فبادرت إلى استثمار نجاحها
وهو بيانٌ يتناقض مضمونه مع ما نشر من إطلاق تسميةٍ تستعيد ذكرى سوداء في تاريخ سورية، لم يستفد منها سابقا سوى النظام نفسه. وإذا صدقت جرعة الوعي الصاحية في البيان، فسيعزز ذلك نجاح وحدتها العسكرية في مواجهة الحلف المتعاظم لمعسكر النظام، والتي سبق أن كانت سبباً حاسما في تحقيق انتصار إدلب، وكان غيابها السبب الأكثر وضوحاً في تراجع الثورة وانتكاساتها في أكثر من جبهة.
بذلك، يمكن أن تكون معارك حلب التي بدأت انطلاقاً من فك حصارها، وتخفيف معاناة أهلها، مفترق طريق جديدا للمعارضة، كي تستمر اندفاعتها، وتتابع تشكيل قيادتها الموحدة عسكريا وسياسيا لكل قوى الثورة والمعارضة. وبدلاً من أن تكون هذه الوحدة مؤقتةً وعابرة، فإن النجاحات التي بدأت تحقيقها، وفاجأت معسكر أعداء الثورة قبل أصدقائها، تؤكد أهمية استمرارها وتطويرها ومشاركة جميع جبهات الثورة فيها، ما يفتح الباب واسعاً أمام آمال استنهاض جديد لمشروع الثورة السورية، وهو مشروع انطلق أصلاً من قيم وطنية ودينية وأخلاقية رفيعة، وتقع على عاتق جميع المؤمنين به مسؤولية تنقيته من ردود الأفعال ونزعات الانتقام وآثار مآسي السنوات الماضية، وكل ما أحالت إليه أخطاء فردية، وانفعالات عاطفية، وردود أفعال غرائزية، طالما عمل النظام على إطلاقها، وترويجها، والاستفادة منها في تحصين معسكره. وها هي الشهباء تدعونا جميعا إلى دروسها، فهل نلبي النداء؟