دروس الإعلام البريطاني من نظيره الأميركي

31 يوليو 2019
تشابه بين جونسون وترامب في الشكل والمضمون (لورن كامبل/WPA)
+ الخط -
ثلاث سنواتٍ على انتخاب دونالد ترامب ووصوله للبيت الأبيض، مع كلّ الحرب التي خاضها (ولا يزال) على الإعلام، تحديداً الذي لا يؤيّده، يجد الإعلام البريطاني نفسه في موقعٍ قريب، إثر وصول بوريس جونسون إلى 10 داونينغ ستريت. ومع التشابه والتشبيه بين الرئيس الأميركي ورئيس الوزراء البريطاني، إثر تصريحات وتصرّفات، ناهيك عن الغرائب والشعر الأصفر، يواجه الإعلام البريطاني تحدياً جديداً، في ظلّ جديّة صحافية مطلوبة، كي لا تتكرّر التجربة الأميركيّة، التي إن كشفت الكثير عن ترامب وعارضته، إلا أنّها انشغلت بمعاركها معه، وجلّها غير مرتبط بالسياسة، بدلاً من التغطية السليمة للمواضيع السياسية.

وفي هذا الإطار تقول إميلي بيل، في مقال رأي لها نُشر يوم الإثنين الماضي في صحيفة "ذا غارديان" البريطانيّة، إنّ على "الصحافيين البريطانيين الذين يواجهون بوريس جونسون التعلّم من التجربة الأميركية". وبالنسبة لها، توفر الظروف السياسية الغريبة حالياً، والافتتان بالقائد الجذاب المثير للجدل، نسخةً لا نهاية لها، ولكنها أيضاً تُشكّل تحدياً للصحافيين السياسيين بطريقة أو بأخرى. مع تحرك الأحداث بسرعة فائقة، لا بدّ من فرز الأهمية والموضوعية بين السطحي والمزيف. يمكن للصحافيين الذين يستعدون لتغطية بوريس جونسون أن يفعلوا ما هو أسوأ من فحص المزالق، التي واجهتها الولايات المتحدة خلال ثلاث سنوات من حكم ترامب. إذ إنّ أوجه التشابه القوية بين بوريس جونسون ودونالد ترامب - كالشعر والاقتصاد مع الحقيقة والانقسام، تمّ رسمها، لكن هناك أيضاً الكثير من الدروس من الولايات المتحدة حول كيفية عدم تغطية الوضع الطبيعي الجديد.

تضرب بيل مثالاً قريباً على ذلك، فتتحدّث عن شهادة المستشار الخاص السابق روبرت مولر للجنتين بالكونغرس، عن محتوى تقريره بشأن التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016. تلك كانت القصة الأكثر أهمية في الولايات المتحدة الأسبوع الماضي، إذ قال مولر بأنّه كان هناك تدخل وهو مستمر. لكنّ الطريقة التي تمّت بها تغطية مولر كانت تروي قصة مختلفة، إذ تم الحكم على نجاح ظهوره على أساس الشكل لا المحتوى. وهو ما قاله المعلّق في "إن بي سي"، تشاك تود، الذي اعتبر أنّه "من حيث الموضوع، حصل الديمقراطيون على ما يريدون. من ناحية البصريات، كانت هذه كارثة".

وتُشير بيل إلى أنّ التغطية لشهادة مولر كانت سطحيّة، مرة أخرى، ما أتاح مجدداً تسليط الضوء على تحويل الصحافيين السياسيين في أميركا للسياسة إلى ما يُشبه الإنتاج المسرحي، كأنّه التركيز على الدراما وشباك التذاكر في الأوقات غير العادية بدلاً من البحث في أهميّة السياسة. وما تقوله بيل له سوابق استغلّها ترامب. ففي مارس/ آذار الماضي، أي عندما أعلن مولر نتيجة تحقيقه، ارتدّت نتائج التقرير على الإعلام المعارض لترامب، مع توجّه الرئيس إلى التصويب على الصحافيين الذين كتبوا بكثافة عن الموضوع، فوصلت أنباء لصحافيين بارزين، بينهم جيم أكوستا الذي كان له خلافه الخاصّ مع ترامب، عن نيّة الإدارة "فضح المؤسسات الإعلامية وضربها". وفي ذلك اليوم نفسه، قال ترامب عبر تويتر: "الإعلام السائد يُنتقد ويحتقر في العالم كله بسبب فساده وزيفه. روّج طوال عامين لوهم التواطؤ الروسي، بينما كانوا يدركون جيداً أن لا تواطؤ. إنهم فعلاً أعداء الشعب".

كلّ ذلك، دفع محررة الشؤون المتعلقة بشبكة "إم إس إن بي سي"، في مجلة "كولومبيا جورناليزم ريفيو"، ماريا باستيوس، إلى التعليق على تغطية شهادة مولر بالقول: "السياسة ليست للترفيه. هذا ليس أداءً يمكن انتقاده، إنّها ثقة من الشعب ذات أهمية كبيرة". وفي "ذا أتلانتيك" انتقد تود إس بوردوم مفهوم "البصريات" بأكمله، واصفاً إياها بـ "الكريبتونايت في عصر الإعلام الحديث، المادة البراقة والبلورية التي يمكن أن تستهلك الموادّ في كل منعطف غادر". (الكريبتونايت هي مادة خيالية في قصص سوبرمان، وهي تبثّ إشعاعات تضعف البطل الخارق).

هنا، ترى بيل أنّ تغطية مولر ليست سوى أحدث لحظة للتغطية السياسية الأميركية، إذ يتمّ تعلم الدروس بوتيرة حلزونيّة وأحياناً لا يتم تعلمها على الإطلاق. وتنقل عن كاتبة العمود في "واشنطن بوست"، مارغريت سوليفان، اعتبارها أنّ الدرس الأساسي للصحافيين في هذه الظروف غير الطبيعيّة هو عدم الرضوخ للتطبيع، مضيفةً "بمجرّد أن يشغل السياسيون مناصب عليا، يُصبح من الصعب جداً عدم التعامل مع هذا الشخص على أنّه فقط تباين في ثيمة حكوميّة، حتى لو كان الشخص مختلفاً عن الآخرين". من جهتها، يُقدّم رئيس تحرير مجلة "كولومبيا جورناليزم ريفيو" كايل بوب، نصيحةً للصحافيين المستقلّين في المملكة المتحدة في أعقاب وصول ترامب للسلطة: "أشجّع المراسلين البريطانيين على أن يكونوا صادقين مع أنفسهم ومع جمهورهم، حول من هو بوريس جونسون وما هي دوافعه، ثم المضيّ قدماً. لا تدعوه يكُن رئيس تحريركم، ولا أن يملي عليكم دورة الأخبار".

وترى بيل أنّ الفحص الذاتي الذي يجريه الصحافيون الأميركيون ضروري جداً، وهو على الأقل بداية، لكنّه أيضاً يتناقض كلياً مع نظرائهم في المملكة المتحدة، الذين يبدو أنهم تخطّوا الحدود من دون اكتراث. وتشير إلى أنّ "ديلي تيليغراف"، حيث كان جونسون كاتب عمود بمردود مادّي كبير حتى وصوله إلى 10 داونينغ ستريت، هي أقرب إلى رئيس الوزراء البريطاني من قرب "بريتبارت" أو "فوكس نيوز" من ترامب نفسه. وبحسبها، فإنّ تغطية الأسلوب بدلاً من الجوهر، وتقبّل النزاعات العميقة ذات الاهتمامات غير المعلنة، أو تضخيم وتكرار الأشياء المعروف أنّها غير صحيحة بغرض جذب الاهتمام أو كسب أرباحٍ حزبية، كلّها سمات تاريخية من صفات الصحافة السياسية البريطانيّة أكثر من كونها خطأً. وتقول: "إنّه نموذج الأعمال لإمبراطوريات صحافية مهمة، ولكنّها جميعاً معرّضة للخطر في سوق يمكنها أن تجد الترفيه بسعرٍ أرخص وبسهولة في أي مكانٍ آخر"، مضيفةً أنّه من المفيد تكرار أنّ أيّ حقيقة نعرفها حول وضعنا السياسي الحالي تعود إلى العمل الدؤوب للباحثين والمراسلين، الذين يواصلون اكتشاف وعرض جوانب الحياة العامّة "الأقل تسلية".

وربما يكون الدرس الأكبر الذي يمكن أن تتعلّمه وسائل الإعلام البريطانيّة من تجربة الولايات المتحدة، إثر وصول ترامب للسلطة هو أنّ عملها مهمّ للجميع، وهي دائرة تشمل أبعد من جمهورها، ولهذه الغاية يجب أن يصبح عملها أكثر صرامة وجدّية.
المساهمون