درجة الصفر في الترجمة

30 اغسطس 2017
سارج فانديركام/ بلجيكا
+ الخط -

عند الخوض في مسألة الكتابة يصعب عدم استحضار الناقد الفرنسي رولان بارت (1915-1980) وكتابه الرائد "درجة الصفر في الكتابة". ذلك الكتاب الذي طرح تصوُّراً جديداً للأخيرة؛ يراها تحقُّقاً نصِّيّاً في الفجوة الكامنة بين اللغة والأسلوب، وأنها حين وصْلِها بين المجتمع والإبداع، تَصِلُ بين الذكرى والحرية أيضاً، ويؤكِّد فيه كذلك على أنّه "لا لغة تُكتَبُ بمنأى عن التباهي"، ومعنى هذا أنْ لا حيادَ في الكتابة، مهما ادَّعى مُجترِحوها ذلك.

وحينما يتساءل بارت في "درجة الصفر في الكتابة" عن إمكانية تحقّق كتابة محايدة ونقية وحتى بيضاء تطبعها الموضوعية. فهو يلفت الانتباه إلى صعوبة العثور على كتابة متخلِّصة من الذات ومتجرِّدة من أساليب متداولة وأفكار مطروقة.

ويسمح لنا استعراض هذا الغيض من فيض أفكار بارت بالتساؤل إنْ كان يسري على الترجمة بِصِفتها إعادة كتابة ما يسري على الكتابة، أو بالتماس مظاهر للتقاطع بينهما، على الأقل، خصوصاً وأن بارت لا يُميّز بين الكتابة وإعادة الكتابة، ولا يفصل بينهما، مثلما أنه لا يُقيم الحدود بين الأجناس الأدبية.

لا ينفي بارت عن الكتابة -مهما كان جنسُها- مُلاحقتَها للمعنى وطَلَبَها التأثير في المتلقي، وهي تلتقي في ذلك مع الترجمة التي يكون هاجِسُها القبض على المعنى دوماً، وإحداث التأثير نفسه في متلقيها، في اللغة المنقول إليها. لكن الترجمة غالباً ما تُولي عنايةً أقلَّ بنقل شكل العمل، بينما يكون الأخيرُ لدى المؤلِّف الأصلي وسيلة جوهرية في مستوى المضمون، وذاك ما أكّد عليه والتر بنجامين.

لا مراء في أنّ التفكير في الكتابة، من زاوية تَبَيُّن درجة الصفر فيها كان فتحاً معرفياً، وأن بارت حرَّك الساحة النقدية بالجديد الذي أثاره، ويبدو أن الترجمة باعتبارها فعلاً توسّطيّاً قد تكون المجالَ الأنسب والأخصب أيضاً لافتحاص تصوُّرات بارت فيها، وبشكل إجرائي، خصوصاً عند استحضار تلك المفاهيم التي أبدعها لورانس فينوتي ضمن أفكاره المُتضمَّنة في كتابه الشهير "اختفاء المترجم: تاريخ للترجمة" مثل: التخفّي، والسلاسة، والشفافية، والتغريب، والتدجين، إلخ.

يرى فينوتي أن الترجمة المُثلى بصفتها كتابة هي الترجمة السلسة التي "يألفها القارئ ويفهمها في الحال"، وأنها تَكُفُّ عن كونها ترجمة في اللحظة التي تُشعِر قارئها بأنها ترجمة، أي لحظةَ انتباهِه إلى الغرابة في العبارة وفي بناء الصورة، وافتقاد السّلاسة في التركيب وحضور الهُجنة نتيجةً لابتعادها عن الشفوف. فهل تتحقق درجة الصفر في الترجمة بحضور المترجِم عَبْر غيابه؟ أي من موقعه المتواري كإله خفيّ يخلق نصوصاً وينقُلها، بينما يجتهد في إخفاء كلّ أثر يدل عليه؟

يحلو لأنصار استراتيجية اختفاء المترجم أنْ يستعيروا لها صورة السِّتارة الشفيفة، التي تسمح برؤية ما خلفها، لأن المترجمَ، حسب فينوتي، "يبذل فيها جهدَه حتى يكون غيْرَ مرئيّ، فيعطي انطباعاً مضلِّلاً بالشفافية، وهو انطباع يُخفي طبيعته المضللة في الوقت نفسه، إذ يبدو النص المترجم طبيعياً، أو غيرَ مترجَم".

عند تبني المترجِمِ لاستراتيجية الشفوف، التي بالوسع تسميتُها بدرجة الصّفر في الترجمة -وهي على العموم الإستراتيجية المهيمنة- يَعْمَدُ إلى سحق ذاتِه، وإلى ادعاء أنه كائنٌ أثيري؛ حين يتنازل عن أشياء مهمة منها صَوْتُه مثلاً، ومنها حقّ الآخَر الأجنبيّ المترْجَم. ألا يكون المترجِم، وهو يجني ثناءً على عمله، من قُرّاءٍ يمتدحونه بقولهم "كأنَّ هذه الترجمة كُتِبَت بلغتنا رأْساً"، قد دجَّن العمل وَفْق ذائقَة الثقافة المُسْتَقْبِلة؟

إذا كان بارت قد أقرَّ باستحالة الكتابة في درجة الصفر، فالشيء نفسُه يكادُ يصدُق على الترجمة، بوصفها إعادة كتابة؛ التي على الرغم من تطلّع ممارسيها إلى التحلي باستعارة السِّتارة، فإن مُنجزَهم يُقَصِّر عن طموحهم.




المساهمون