دخان الجوائز ونار الروايات
ظللت دائماً أرفض المعنى العام والشائع لمقولة "زمن الرواية" توصيفاً لزمننا الأدبي العربي الراهن، إلا أنها يمكن أن تكون واقعاً حقيقياً إن اتخذناها توصيفاً لـ"أجواء" الواقع الأدبي الراهن وحسب، وليس لنتائجه ومنجزاته بالضرورة، فكلما تلفتنا حولنا، وجدنا دخانا يملأ السماء، منطلقا من بؤرة نار وقودها، غالبا، روايةٌ ما! بينما انزوت القصيدة بانشغالاتها الخاصة بعيداً، غالباً أيضاً، عن الأجواء النقدية والصحافية العامة. أما لماذا، فلأسبابٍ كثيرة، أهمها الجوائز المادية الضخمة المخصصة للروايات، والتي انتشرت ظاهرة في العقد الأخير، مع ما تبعها بالضرورة من مستلزمات النجومية الإعلامية، توافقاً مع بحث الإعلام، بصيغه المتعددة، عن نجومٍ جددٍ يغذّي بهم نهم منصاته الاستهلاكية الكثيرة.
وعلى الرغم من أن الجوائز من حالات الرحمة التي استنزلها الواقع الجديد على الأدباء العرب، بعد زمن من الشكوى، في سياق ما يعرف، في التراث العربي، بالواقع الفقير ماديا لـ"الذين أدركتهم حرفة الأدب"، إلا أن كثيرين اتخذوا منها غايةً تسبق الكتابة والإبداع، بدل أن تكون مجرد هدية على تجويدهما والتفوق فيهما. ومن هنا، برزت خطورة الجوائز على الحالة الثقافية بشكل عام، وشقها الروائي خصوصاً.
أتفق مع ما ذهب إليه الناقد السعودي، محمد العباس، في مقابلته مع الكاتب الزميل طامي السميري، في جريدة الرياض، يوم السبت الماضي، بشأن تأثير الجوائز المالية على منجز الرواية العربية. اعتبر العباس أن "أخطر منعطف تعبره الرواية العربية حالياً يتمثل في التلويح بالجوائز المالية الهائلة التي صارت تهدد بالفعل الخطاب الروائي العربي، وتبعد الروائيين عن قضاياهم المركزية، وعن مرجعية الإنسان. وإن كان هذا البعد لا يلغي منظومة من الأخطار التي أدت إلى تردّي الرواية العربية، سواء على مستوى المضامين، أو الأداء الفني".
وهذا صحيح تماماً، وشواهده كثيرة، بل يكفي أن نطلع على النتاج الروائي العربي، في السنوات الخمس الأخيرة، لنجد أن العباس وضع أصابعه النقدية الخبيرة على الوجع الروائي تماماً، وأنه حدّد موضع الورم المسبب له، ولم يبق سوى عملية الاستئصال، والتي لا يبدو أنها من مهمات الناقد، وإلا لفعلها العباس، بخبرته القرائية والنقدية المشهودة، وفعلها غيره من النقاد الذين يتابعون المشهد الروائي العربي، بإخلاص وعناية ووعي، والأهم بحس نقدي عال.
كيف سينتهي الأمر بهذا المشهد الروائي المزدحم بالجوائز الضخمة، وما يحفّ بها من مكائد ومؤامرات واتفاقات وتعاملات وتبادلات مشروعة وغير مشروعة، بعيداً عن الإبداع الحقيقي؟
لا إجابة مريحة، ولكن مجرد إشارات على أن الوضع من سيئ إلى أسوأ على هذا الصعيد.. والأمثلة كثيرة.
انشغل في الأيام القليلة الماضية، كثيرون من متابعي الشؤون الثقافية العربية، بحادثةٍ أثارتها، ببراعة وموضوعية، الزميلة ليلاس سويدان، في جريدة القبس الكويتية، وهي شبهة مخالفة شابت ظهور إحدى الروايات في قائمة الجائزة العالمية للرواية العربية "بوكر"، ما أثار انتباه الجائزة للمخالفة، وجعلها تعيد النظر في قائمتها، وتستبعد الرواية المعنية. وعلى الرغم من أن الموضوع فني بحت، إلا أنه أثار زوبعة من ردود الفعل المؤيدة والمعارضة، بشأن الوضع برمته، إلى ما يشبه مباراة في كرة القدم. ووجد كثيرون أنفسهم على المدرجات، بعضهم يصفق تشجيعاً وبعضهم الآخر يصفر استهجاناً، وبلغ السعار الهجومي أوجه لدى مدافعين عن الفساد الثقافي بإنتاج مزيد منه عبر كتابتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، ولا هدف أمامهم وأمام الرواية سوى الجائزة المالية القيّمة التي تلوح لهم في نهاية الطريق المغلق.
ألقت هذه الحادثة الصغيرة في شكلها والكبيرة، في ما آلت إليه من نتائج ورود فعل، وفي ما كشفت عنه من أمراض تزخر بها الساحة الثقافية العربية الراهنة، الضوء على واقع "تردّي الرواية العربية"، وفقاً لمفهوم محمد العباس.. وعلى تخبّط روائيين عرب في دخان الجوائز، غير آبهين بالنار التي اندلعت في واقعهم الروائي.