23 أكتوبر 2024
خياران صعبان أمام بنكيران
وضع رئيس الحكومة المغربية المعيّن، عبد الإله بنكيران، نفسه أمام خيارين صعبين أحلاهما مُر. فبعد أكثر من مائة يوم من الصمود أمام محاولات مقرّبين من القصر أن يفرضوا عليه شكل الأغلبية ووزراء الحكومة التي سيقودها خمس سنوات، يجد نفسه، وهو الأمين العام لحزب العدالة والتنمية الإسلامي الذي تصدّر انتخابات 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أمام خيارين محدودين، وكل منها صعب. وقبل استعراضهما، لا بد من التذكير كيف وصل رئيس الحكومة المعين إلى هذا المأزق الذي زُجّ به فيه، أو زَج نفسه داخله، بما أنه يتحمل جزءاً من المسؤولية فيما آل إليه الوضع الحالي.
حتى قُبيل الانتخابات التشريعية الماضية، كان واضحا أن السلطة المركزية في المغرب التي يُرمز إليها بمصطلح المخزن، في إشارة إلى محيط القصر، وهو ما يعادل الدولة العميقة في المغرب، لا تريد التجديد للإسلاميين لقيادة الحكومة خمس سنوات مقبلة، بعد أن قادوها منذ الحراك الشعبي الذي عرفه المغرب بتأثّر من "الربيع العربي". وسعت السلطة جاهدة، بكل السبل التي أتيحت لها، لقطع الطريق أمام الإسلاميين، حتى لا يفوزوا في الانتخابات. لكن نتائج صناديق الاقتراع كانت إلى جانبهم، ومكّنت حزبهم (العدالة والتنمية) من المركز الأول بين الأحزاب المتنافسة، وهو ما افترض، حسب الدستور المغربي، تعيين رئيس الحكومة من بين صفوفهم. وبالفعل، تم تعيين بنكيران رئيساً مكلفاً بتشكيل حكومة جديدة.
في البداية، بدا أن تشكيل الحكومة لن يتطلب وقتاً كثيراً، فقد أبدت كل الأحزاب الممثلة داخل البرلمان الجديد، باستثناء حزبين، رغبتها في المشاركة في الحكومة، لكن رئيسها المعيّن أصرّ على انتظار حزب بعينه، هو "التجمع الوطني للأحرار" المقرّب من السلطة، وبرّر إصراره على ضم هذا الحزب إلى أغلبيته بالقول إنه يضم "كفاءات" لا توجد في غيره. وفي الواقع، هذا الحزب هو ناد لـ "الأعيان"، أسسه في سبعينيات القرن الماضي صديق الملك المغربي الراحل الحسن الثاني وصهره، وظل يشارك في كل الحكومات المغربية، على الرغم من أنه يكاد يكون بلا قاعدة شعبية حقيقية.
وفي لحظة الانتظار تلك، سيتحول عامل الزمن إلى سلاح ضد رئيس الحكومة المعين، فالحزب
الذي انتظره لضمه إلى أغلبيته سيغيّر قيادته، وسيأتي شخص مقرّب من القصر على رأسه، هو عزيز أخنوش، المعروف بقربه من الملك محمد السادس. وهو، في الوقت نفسه، صاحب أكبر ثروة في المغرب بعد الملك محمد السادس ورجل الأعمال المغربي عثمان بنجلون. وفجأةً، سيجد بنكيران نفسه أمام مفاوضٍ يريد أن يقاسمه قيادة الحكومة، على الرغم من أن حزبه احتل المرتبة الرابعة في الانتخابات. وبدأ مسلسلا الابتزاز والتنازلات، حتى جاء القرار الملكي بضرورة الإسراع لانتخاب رئيس البرلمان الجديد، وهو ما أدى إلى انتخاب الأغلبية التي أسفر عنها انتخاب رئيس البرلمان المغربي الذي جرى مساء الاثنين الماضي، وعادت رئاسته إلى حزب حل ما قبل الأخير من بين سبعة أحزاب ممثلة في البرلمان.
وأمام هذا المستجد المتعلق بالأمر الملكي بانتخاب رئيس لمجلس النواب، رفض حزب رئيس الحكومة المعين التقدّم بمرشح منافس، واختار التصويت بالورقة البيضاء، فيما اختار حزب آخر مقرّب من السلطة احتل المركز الثاني في الانتخابات (الأصالة والمعاصرة) وأعلن أنه سيكون في صف معارضة الحكومة التي سيقودها الإسلاميون، التصويت لصالح المرشح الوحيد التي تقدم لرئاسة مجلس النواب. وأفرز هذا الوضع أغلبية هجينة، تتكوّن من أحزابٍ أعربت عن رغبتها في المشاركة في الحكومة المقبلة، ومن حزبٍ أعلن عن معارضته الحكومة نفسها، ومطلوب منها أن تدعم حزب رئيس الحكومة الذي سيقودها، على الرغم من أنه امتنع عن التصويت معها!
الوضع معقد، وليس من السهل استيعابه، وبالأحرى شرحه. ويتحمل رئيس الحكومة المعيّن جزءاً كبيراً من المسؤولية في الزجّ بنفسه وحزبه داخل هذا الوضع، لأن تأخره في تشكيل حكومته، وانتظاره الحصول على توافق مسبق قبل انتخاب رئيس لمجلس النواب، وتقديمه التنازلات تلو الأخرى لرئيس الحزب المقرّب من القصر، وعدم ترشيح حزبه منافساً على رئاسة مجلس النواب، كلها أخطاء يتحمل هو مسؤوليتها. وعندما اختار، أخيراً، التصويت بالورقة البيضاء فهو كمن أعلن عن رفعه الراية البيضاء، مستسلما أمام خصومه بعد مائة يوم ونيف من "الصمود".
ما حصل، يوم 16 يناير/كانون الثاني الجاري في المغرب، في أثناء انتخاب رئيس مجلس
النواب، بمثابة "انقلاب أبيض" على نتائج انتخابات 7 أكتوبر، والمفارقة أنه انقلاب تم بموافقة ومباركة من الحزب الذي نُفّذ ضده. وعلى إثره، سيجد بنكيران نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما: القبول بنتائجه، وهو ما حصل حتى الآن، والاستعداد لتقديم تنازلات أخرى أكبر وأعظم، لأن المطلوب ليس هو رأس بنكيران ولا حزبه، وإنما إغلاق قوس "الربيع المغربي" نهائياً والعودة إلى ما قبل زمن 2011. والخيار الثاني، إعلان بنكيران وحزبه العودة إلى المعارضة البرلمانية، لأنه لن يقود أغلبيةً هجينة مصالحها معه وسيوفها ضده.
وفي النهاية، يتحمل بنكيران وحزبه جزءاً كبيراً من المسؤولية في ما يحدث اليوم من انقلاب ضد الإصلاحات التي أُعلن عنها عام 2011 تحت ضغط الحراك الشعبي، فهما معا يؤدّيان اليوم ثمن اصطفافهما ضد ذلك الحراك الذي حملهما إلى سدّة الحكومة، فالانقلاب الحقيقي هو الذي وقع ضد إرادة الشعب عام 2011، وما يحصل اليوم هو فقط تنفيذه بأثرٍ متأخرٍ ضد من دعموه، ونسوا أن الانقلابات مثل الثورات تأكل أبناءها.
حتى قُبيل الانتخابات التشريعية الماضية، كان واضحا أن السلطة المركزية في المغرب التي يُرمز إليها بمصطلح المخزن، في إشارة إلى محيط القصر، وهو ما يعادل الدولة العميقة في المغرب، لا تريد التجديد للإسلاميين لقيادة الحكومة خمس سنوات مقبلة، بعد أن قادوها منذ الحراك الشعبي الذي عرفه المغرب بتأثّر من "الربيع العربي". وسعت السلطة جاهدة، بكل السبل التي أتيحت لها، لقطع الطريق أمام الإسلاميين، حتى لا يفوزوا في الانتخابات. لكن نتائج صناديق الاقتراع كانت إلى جانبهم، ومكّنت حزبهم (العدالة والتنمية) من المركز الأول بين الأحزاب المتنافسة، وهو ما افترض، حسب الدستور المغربي، تعيين رئيس الحكومة من بين صفوفهم. وبالفعل، تم تعيين بنكيران رئيساً مكلفاً بتشكيل حكومة جديدة.
في البداية، بدا أن تشكيل الحكومة لن يتطلب وقتاً كثيراً، فقد أبدت كل الأحزاب الممثلة داخل البرلمان الجديد، باستثناء حزبين، رغبتها في المشاركة في الحكومة، لكن رئيسها المعيّن أصرّ على انتظار حزب بعينه، هو "التجمع الوطني للأحرار" المقرّب من السلطة، وبرّر إصراره على ضم هذا الحزب إلى أغلبيته بالقول إنه يضم "كفاءات" لا توجد في غيره. وفي الواقع، هذا الحزب هو ناد لـ "الأعيان"، أسسه في سبعينيات القرن الماضي صديق الملك المغربي الراحل الحسن الثاني وصهره، وظل يشارك في كل الحكومات المغربية، على الرغم من أنه يكاد يكون بلا قاعدة شعبية حقيقية.
وفي لحظة الانتظار تلك، سيتحول عامل الزمن إلى سلاح ضد رئيس الحكومة المعين، فالحزب
وأمام هذا المستجد المتعلق بالأمر الملكي بانتخاب رئيس لمجلس النواب، رفض حزب رئيس الحكومة المعين التقدّم بمرشح منافس، واختار التصويت بالورقة البيضاء، فيما اختار حزب آخر مقرّب من السلطة احتل المركز الثاني في الانتخابات (الأصالة والمعاصرة) وأعلن أنه سيكون في صف معارضة الحكومة التي سيقودها الإسلاميون، التصويت لصالح المرشح الوحيد التي تقدم لرئاسة مجلس النواب. وأفرز هذا الوضع أغلبية هجينة، تتكوّن من أحزابٍ أعربت عن رغبتها في المشاركة في الحكومة المقبلة، ومن حزبٍ أعلن عن معارضته الحكومة نفسها، ومطلوب منها أن تدعم حزب رئيس الحكومة الذي سيقودها، على الرغم من أنه امتنع عن التصويت معها!
الوضع معقد، وليس من السهل استيعابه، وبالأحرى شرحه. ويتحمل رئيس الحكومة المعيّن جزءاً كبيراً من المسؤولية في الزجّ بنفسه وحزبه داخل هذا الوضع، لأن تأخره في تشكيل حكومته، وانتظاره الحصول على توافق مسبق قبل انتخاب رئيس لمجلس النواب، وتقديمه التنازلات تلو الأخرى لرئيس الحزب المقرّب من القصر، وعدم ترشيح حزبه منافساً على رئاسة مجلس النواب، كلها أخطاء يتحمل هو مسؤوليتها. وعندما اختار، أخيراً، التصويت بالورقة البيضاء فهو كمن أعلن عن رفعه الراية البيضاء، مستسلما أمام خصومه بعد مائة يوم ونيف من "الصمود".
ما حصل، يوم 16 يناير/كانون الثاني الجاري في المغرب، في أثناء انتخاب رئيس مجلس
وفي النهاية، يتحمل بنكيران وحزبه جزءاً كبيراً من المسؤولية في ما يحدث اليوم من انقلاب ضد الإصلاحات التي أُعلن عنها عام 2011 تحت ضغط الحراك الشعبي، فهما معا يؤدّيان اليوم ثمن اصطفافهما ضد ذلك الحراك الذي حملهما إلى سدّة الحكومة، فالانقلاب الحقيقي هو الذي وقع ضد إرادة الشعب عام 2011، وما يحصل اليوم هو فقط تنفيذه بأثرٍ متأخرٍ ضد من دعموه، ونسوا أن الانقلابات مثل الثورات تأكل أبناءها.