خيارات روسية تُغني عن التهديدات العسكرية

30 اغسطس 2015
من المتوقع أن يهدأ الجيش الروسي (سيرغي فينيافسكي/فرانس برس)
+ الخط -
لروسيا هموم داخلية كثيرة في الفترة الحالية، لكنها تسعى للخروج منها عبر تحقيق مكاسبٍ خارجية، سياسية وعسكرية. ويُمكن فهم الحراك الروسي المستجدّ من جزر الكوريل في أقصى الشرق إلى كالينينغراد في أقصى الغرب، على أنه حراك خارجي للتغطية على التراجع الداخلي.

حتى الآن يوحي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنه يملك أعصاباً فولاذية، لكن الوضع الداخلي بات أكثر سخونة عما كان عليه في السابق. العملة المحلية الروبل، تواصل تراجعها، وفقدت أكثر من نصف قيمتها خلال أربعة أشهر، منذ مايو/أيار الماضي، حين استعرضت روسيا قواتها العسكرية في "يوم النصر" الـ70. وكشفت أرقام يوم الاثنين 24 أغسطس/آب الحالي، عن تراجع مخيف في العملة، على وقع تراجع أسعار النفط العالمية، إلى ما دون الـ40 دولاراً للبرميل. حاول الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، طمأنة الروس، موحياً بأن "الوضع استثنائي"، في كلامه عن أن "أسعار النفط باتت في أدنى مستوياتها للمرة الأولى من 30 أو 40 عاماً". غير أنه حاول ضخّ الثقة بمواطنيه، قائلاً: "لا أستبعد تدخّل المصرف المركزي الروسي، كالسابق، للمحافظة على قيمة الروبل". كما رجّح وزير التنمية الاقتصادية أليكسيس أوليوكايف لوكالة "انترفاكس"، ألا "يستمر الانخفاض في أسعار النفط إلاّ لفترة قصيرة".

الفترة القصيرة التي يتحدث عنها أوليوكايف، هي تلك المحطة الزمنية الحالية التي تسبق موسم الشتاء الأوروبي، والذي تعوّل عليه روسيا، لزيادة مدخولها، ولو بأسعار منخفضة. تدرك روسيا أن حاجة الاتحاد الأوروبي للغاز، باتت أكبر من ذي قبل، بسبب تدفق اللاجئين الهاربين من الشرق الأوسط وافريقيا إلى القارة العجوز. وقد أظهرت التقارير الأوروبية، الهادفة إلى بناء مصانع لتشغيل اللاجئين في الشرق الأوروبي، عن واقع ازدياد الطلب على الطاقة مستقبلاً. وارتفعت حظوظ إقامة مثل تلك المصانع، بفعل ازدياد الزحف البري للاجئين من جهة تركيا واليونان ومقدونيا وبلغاريا والمجر، أي الدول التي تقع ضمن مخطط "السيل الجنوبي" (السيل التركي)، أو على تخومه، والذي تُجهّزه روسيا ليكون بديلاً من خط الأنابيب العابر لأوكرانيا. ولا تكتفي روسيا بذلك، بل إن البلقان قد يكون "حليفاً طبيعياً"، بفعل وجود صربيا، كشريك لروسيا، في بقعة تسخن كل فترة.

اقرأ أيضاً فلاديمير بوتين يكرّر نفسه: الغوّاصة نفسها واستعراضات القوّة 

وفي وقتٍ تنتظر فيه روسيا أن تأتي إليها أوروبا قريباً، حاولت تسريع ميكانيكية الخطوة الأوروبية المتوقعة، عبر نشر 50 ألف جندي على الحدود مع أوكرانيا، وفقاً للرئيس الأوكراني بيترو بوروشينكو. وهو ما يزيد عن العدد السابق وهو 30 ألف جندي. كما قامت البحرية الروسية بمناورات بالذخيرة الحية في بحر البلطيق بمشاركة منظومة المدفعية التابعة للأسطول الروسي في كالينينغراد. ودائماً ما تعمل موسكو على إجراء مناورات ميدانية، كي تحقق أرباحاً سياسية، ولا يُستبعد في هذا السياق، أن تقوم طائراتها العسكرية باختراق المجال الجوي لدول البلطيق أو اسكندنافيا قريباً لمزيد من الضغط على أوروبا.

الهموم الروسية غرباً، لا تدعها تشيح بنظرها عن جزر الكوريل (مقاطعة ساخالين بالنسبة للروس) شرقاً. جزر الكوريل شكّلت، ولا تزال، نقطة خلاف كبيرة مع اليابان، رغم العلاقات الجيدة بين البلدين. غير أن لروسيا أهدافاً أبعد من مجرّد "الردّ على اليابان" أو "تعزيز الشعور بالقومية الروسية". تعلم روسيا أن الساحة الآسيوية، تحديداً جنوب شرق آسيا، من بحر العرب في المحيط الهندي إلى الشواطئ اليابانية، وما بينهما من بحري الصين الجنوبي والشرقي، ستكون مركزاً لصراعٍ اقتصادي مستقبلي، أهم حتى من منطقة وسط آسيا. وقد بدأ الأميركيون التجهيز للصراع عبر إبداءهم المزيد من الاهتمام في تلك المنطقة من العالم، كما أن الصينيين زادوا من وتيرة عملياتهم الاقتصادية والميدانية المرافقة لتلك العمليات، في محاولة لقطع الطريق أمام الأميركيين. وهو ما جعل الروس يتخلون عن "حذرهم" في موضوع جزر الكوريل، ولو خسروا اليابان (وهو ما لن يحصل)، بسبب متانة حلفهم الاقتصادي مع الصين. مع العلم أن جزر الكوريل تقع على المقلب الآخر من المحيط الهادئ المُواجه للسواحل الأميركية الممتدة من كاليفورنيا إلى سياتل، صعوداً إلى ولاية ألاسكا، فضلاً عن أنها ليست بعيدة عن جزر هاواي، إحدى الولايات الأميركية.

الاهتمام الروسي على رقعة تغطي 11 منطقة زمنية (سعة المساحة)، لم تجعل روسيا تتجاهل الوضع الشرق أوسطي، الذي حصرت اهتمامها فيه بين إتمام بيع منظومة "أس 300" لإيران، التي ماطلت فيها كثيراً، لدرجة أن الإيرانيين سبق أن رفعوا دعوة قضائية على الروس في عام 2010 بسبب عدم تسليمهم المنظومة، قبل أن يعلنوا أنهم سيتراجعون عنها قريباً. "كارما" منظومة "اس 300"، انتقلت إلى الروس بالذات، بعد تعليق فرنسا العمل في بناء سفينتي "ميسترال" الروسيتين.

وأيضاً في الشرق الأوسط، وعد الروس ببناء محطات نووية في السعودية ومصر، كما وسّعوا حيّز مشاركتهم في الملف السوري، بعد استقبالهم وفدا من "الائتلاف" المعارض في موسكو. ورغم أن المسافة لا تزال بعيدة بين الروس والأميركيين في شأن الرئيس السوري بشار الأسد، إلا أن الروس باتوا يملكون خيارات أكبر في المستقبل، في حال سقط الأسد، تبدأ من الداخل السوري وتنتهي في دول الجوار.

على أن التفصيل الأهم يظهر في الاستعدادات الروسية لاستضافة كأس العالم 2018، ومن المفترض أنه بدءاً من العام المقبل، سيخفت "الخطر" الروسي عسكرياً على دول الجوار. بالتالي سينصرف الكرملين إلى التحضير لإنجاح كأس العالم، الذي سيُرفد الخزينة الروسية بالأموال اللازمة، التي من المتوقع أن تُنجد الاقتصاد الروسي، خصوصاً أن بوتين سبق له أن أكد أن كل زائر لروسيا في زمن كأس العالم (14 يونيو/حزيران ـ 15 يوليو/تموز 2018)، سيدخل البلاد من دون تأشيرة دخول. ولن تعمد روسيا، مع استمرار أعمال تشييد وتأهيل الملاعب التي ستحتضن المنافسات الكروية، إلى تجاوز إطار التهديد الكلامي والتهويل، ولن تُنفّذ أياً من تهديداتها. مع العلم أن "الجنون" الروسي عسكرياً، قد يحصل في حال أدت التحقيقات في شأن استضافة كأس العالم، إلى أن روسيا "اشترت" الاستضافة.

اقرأ أيضاً: قمة ثلاثية بدون بوتين في برلين بعد التصعيد بأوكرانيا

المساهمون