اختار خوان غويتيسولو (1931-2017) أن يغادر عالمنا في مدينة مراكش المغربية، كما اختار أن يوارى الثرى في المقبرة المدنية بالعرائش قريبًا من جان جينيه الكاتب الفرنسي الذي كان خوان يكنّ له المودة والإعجاب، لأنه يلتقي معه في الالتزام بقضايا الدفاع عن الإنسان باعتباره قيمة عليا، وهو ما قام به خوان في أعمال عديدة مثل: "مطالبات الكونت دون خوليان"، و"خوان بلا أرض"، و"مقبرة"، و"فضائل الطائر المتوحد"، و"الأربعينية"، و"أسابيع الحديقة"، و"حصار الحصارات"، و"ملحمة آل ماركس"، و"الكوميديا الأيرية" أو"المنفي هنا وهناك" وغيرها.
غويتيسولو الذي رحل، أول من أمس، عن عمر يناهز 86 عاماً في مدينة مراكش المغربية، احتُفي به سنة 2014 في عالم الكتابة بحصوله على جائزة ثيربانتس للآداب، أهم جائزة هسبانية تتوج مسار الكتاب الكبار في اللغة الإسبانية. ذهب خوان ليتسلم الجائزة في مدينة قلعة النهر، لكن المفاجأة التي أحدثها خوان غويتيسولو تمثلت في حدثين، الأول ابتعاده الكلّي عن الرسميات التي تميّز عادة مثل هذه الحفلات، فقد لبس خوان لباسه العادي الذي كان يرتديه كل يوم، عدا أنه أضاف إليه ربطة عنق يحكي أنها ربطة العنق الوحيدة التي كان يمتلكها وعمرها 35 سنة.
كانت قد مرّت ست سنوات على آخر عمل إبداعي أصدره خوان وهو رواية: "المنفي هنا وهناك"، عمل سيعقبه فيما بعد إصدار دراسات نقدية كان قد خص بها صديقه الراحل الشاعر خوسيه أنخيل بالينتي، أحد الأصوات المتمردة ضمن الجيل الشعري الخمسيني، لكن المتابعين لخوان يعرفون أنه كان قد وضع بين يدي وكيلته كارمن بالسيلس عملا أوصى بنشره عشر سنوات بعد موته.
الحدث الثاني الذي طبع تسلّم خوان جائزة ثيربانتس يتمثل في الخطاب الاستثنائي الذي ألقاه أمام محفل الكتاب والأكاديميين بحضور الملك فليبي والملكة ليتسيا، كلمة تعتبر أقصر خطاب في تاريخ الجائزة، لكنه يعتبر من أقسى الخطابات وأكثرها كشفاً عن التمرد الذي رافق هذا الكاتب طوال حياته؛ أربع صفحات مأهولة بألف وثلاثمائة كلمة، خطاب مختزل ومكثف قدّم فيه التحية لأهل مدينة مراكش الذين عاش بينهم وهو اليوم يموت بين أحضانهم، إلى جانب إشارات قاسية لما حدث وما زال يحدث من فظاعات: منافٍ فرضت على الكاتب ومن قبله على أساتذته، هيمنة للعولمة ولسلطة المال والبنوك، وهو ما يفرض على مستوى الواقع الفقر والجوع والبؤس والحروب والظلم، نتيجة للأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفساد المنتشر على مدى واسع بين الطبقة السياسية، وتقتيل المهاجرين الأفارقة الباحثين عن ظروف حياة مستحيلة أفضل برصاص الحرس المدني على سياجات مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين، خطاب متمرد يستشهد بمانويل أثانيا، الرئيس الجمهوري الإسباني الذي انقلبت عليه الطغمة العسكرية الفرنكوية.
هذا الخطاب ينسجم مع تاريخ غويتيسولو وإنتاجه، وهو الذي لم يستطع العودة إلى بلاده إلا بعد سقوط الدكتاتورية، وبقيت روايته المعنونة بـ"الأفضل التدمير والنار" (قبل أن يتم تغيير العنوان ليصير "علامات هوية") محظورة في بلده إسبانيا حتى وفاة فرانكو. الرواية التي كانت قد نشرت في المكسيك عام 1966، تعتبر نقطة تحوّل حقيقية في مساره ككاتب، وهي الرواية التي اقتبس عنوانها في البداية من بيت شعري للشاعر الإسباني لويس ثيرنودا، الذي كان غويتيسولو يعتبره كاتباً مرجعياً من حيث تأثيره في مساره الفكري، مثله في ذلك مثل خوسيه ماريا بلانكو أو أمريكو كاسترو.
في سن الخامسة والثلاثين استطاع خوان غويتيسولو أن يحدث تغييرات جذرية على السرد التقليدي من خلال مصادفته لبيت شعري سردي لثيرنودا، متخلياً عن هيمنة ضمير الغائب ومستعيضاً عنه بمزيج من الضمائر، المتكلم منها والمخاطب والغائب، ومزيج من الأزمنة والمكوّنات السردية، مما حقق للنص نوعاً من الكولاج الطليعي على مستوى الكتابة. يقول خوان غويتيسولو: "ولدت رواية علامات هوية من عدم الرضى عن أعمالي الخاصة السابقة، في أعمالي الأولى كنت قد أدّيتُ واجبي كمواطن، لكني لم أقم بواجبي ككاتب: أن تمنح للأدب شيئا آخر مغايراً لما نلته. دون فكرة الجِدّة ليس ثمة عمل حقيقي، وأنا حتى ذلك الحين لم أكن قد كسرت مع القوالب الأدبية الجاهزة".
لكن أحد أهم وأبرز الجوانب في مسيرة خوان غويتيسولو كان يتمثل في اندماجه العميق مع فئات مسحوقة تعاني القهر والظلم، وتبنيه لقضاياها ودفاعه عنها، لقد دافع الشعب الفلسطيني مثلما دافع عن الشعب الجزائري في معركة تحرره من الاستعمار وشعب البوسنة والهرسك وشعب الشيشان، كما سجل مواقف مؤيدة للحراك العربي بعد 2011.
وقد عبّر غير ما مرة عن حبه العميق للعرب؛ إذ قال في كتابه "عصافير تلوث أعشاشها": "إن الفضول الذي دفعني في بداية الستينيات نحو ثيمة العرب، كان أولاً وقبل كل شيء إنسانياً وليس ثقافياً أو كتابياً، فقد عايشت في باريس الرعب اليومي للاضطهاد العنصري، لما كنت مستقراً بها أثناء الحرب الجزائرية، عايشت الإهانات، والحملات التأديبية، والاغتيالات المتكررة التي تفلتُ مِنَ العقاب من طرف الشرطة، وبالإضافة إلى تضامني الطبيعي مع الضحايا انْضافَ شيئا فشيئا عامِلٌ حميميٌّ، كان بدون شك حاسما في اقترابي من عالمهم الحيوي وثقافتهم [...] إن الكيمياء التي تُحَوِّلُ حبَّ جسدٍ من نموذج فيزيقيٍّ وثقافيّ للجسد إلى ضرب من شراهة المعرفة، لَقادِرَةٌ على تحويل العاشق إلى لغويٍّ، وباحثٍ، وعلَّامَةٍ أو شاعرٍ، وتنقله من المستوى الفرديِّ إلى الجماعي، وتفتح عينيه على التاريخ بتراجيدياته وظُلْمِهِ، وتدفعُه إلى النضال في حركاتِ التحرُّرِ من الاستعمار، والنفاذ إلى اللغةِ والأدبِ والفكرِ الذي يستحضرُهُ الجسدُ المحبوبُ ويمثلُهُ [...] إنَّهُ بَرَكةٌ أو نعمةٌ ممنوحةٌ إلى مَنْ يظلُّ بصرامةٍ وإخلاصٍ دائمٍ وفيّاً مهما كانتِ الظروفُ لِمَا هو أكثرُ سرِّيَّةً وأكثرُ قيمةً فيهِ، لا حاجة لأن أوضح أنني، وأنا أتحدثُ عن هذا النوعِ النادرِ من الكُتَّابِ، كنتُ أتحدثُ عن نفسي، عن مساري الأدبي والأخلاقي".
وفاءُ غويتيسولو للهويَّة العربيَّة لا ينتهي، ووفاؤهُ للمكانِ ولأهلِ المكانِ لا يعادله وفاءٌ، حتى بعد أن أصيبَ ومنذُ شهورٍ بكسرٍ على إثر سقطةٍ ثم بجلطةٍ في الدِّماغِ، اختار أن تنتهي حياتُه "مع قبيلته" -كما كان يحلو له أن يقول- في مدينته مراكش، وأن يدفن قرب صديقه جان جينيه بالعرائش، لقد ختم خوان أحد أهم حواراته بعد نيْله جائزةَ ثيربانتس قائلا: "الآن لا أغيِّرُ مراكشَ بأيِّ مكانٍ آخرَ، في عمري الحالي أنا لستُ قادرا على أن أزُجَّ بنفسي في مغامراتٍ جديدةٍ".