أينما حدث صراع دولي أو حرب في ناحية من نواحي العالم، فتّشْ عن الطاقة، فلا بد من أن تكون السبب. فكما أن الطاقة محرك دولي رئيسي للنمو والازدهار العالمي، تبقى المحرك الأول للحروب والهيمنة وتمدد النفوذ.
من هذا المنطلق يمكن النظر إلى الاستراتيجية الخطرة لتصدير الغاز الطبيعي الإيراني إلى دول المنطقة العربية، وكيف أن حكومة طهران تنفق بسخاء عسكرياً ومالياً على العراق وسورية وحزب الله في لبنان ومحاولاتها الأخيرة للهيمنة على اليمن وتفتيت" الدولة المركزية" حتى تتمكن من إدارة المنطقة العربية عبر المليشيات التابعة لها والممولة منها.
من يمعن النظر بعين المصالح المادية، يجد أن كُلاًّ من هذه الدول تدخل في استراتيجية الطاقة الإيرانية، خاصة استراتيجية تطوير صناعة الغاز وتصديرها إلى العالم الخارجي، إلى أوروبا وآسيا، لأن الغاز الطبيعي كمصدر للطاقة النظيفة أصبح يسيطر على توليد الكهرباء وتحريك المصانع في العالم ويتقاسم النفوذ مع النفط، بل أصبح المصدر المفضل في ظل اتفاقيات البيئة وخفض التسخين الحراري.
ومعروف أن دول الخليج، رغم أنها غنية بالنفط، إلا أنها لا تزال تستورد الغاز المسال من الخارج، وبالتالي فإن إيران تستغل حاجة دول الخليج، لتعرض عليها بيع الغاز بسعر رخيص مقارنة بالأسعار العالمية، خاصة وأن الغاز المستورد من العالم لدول الخليج غاز مسال، وهو ما يعني أنها بحاجة إلى منشآت لتحويله إلى غاز، وضخه مرة أخرى، وهو ما يزيد من كلفة المتر المكعب، بينما المعروض من إيران، غاز يضخ عبر شبكة أنابيب بشكل مباشر.
وعلى الصعيد العالمي تسعى حكومة طهران إلى استغلال الحاجة الأوروبية لتنويع مصادر الغاز بعيداً عن روسيا، التي تغذيها بحوالي 35% من احتياجاتها، خاصة وأن أوروبا تعيش مرحلة صراع سياسي مع موسكو حول أوكرانيا ربما يطول. وحتى الآن تبتز الحكومة الروسية أوروبا عبر إمدادات الغاز، خاصة في فصل الشتاء.
ومن هذا المنطلق ينظر الأوروبيون إلى إيران الغنية بالغاز، كأحد البدائل التي يمكن التعاقد معها مستقبلاً لاستيراد الغاز. وهذا الاحتمال أصبح قيد الدراسة في بروكسل في أعقاب توقيع الاتفاق النووي، الذي لعب فيه إغراء الطاقة الإيرانية ومصالح الشركات الغربية دوراً مهماً.
أما الحلقة الثالثة من حلقات استراتيجية الطاقة الإيرانية فإنها تتجه شرقاً، لمد انابيب الغاز الإيراني إلى باكستان ومن ثم إلى الهند وربما لاحقاً إلى الصين.
وتعد السوق الآسيوية من أكبر أسواق استهلاك الغاز في العالم في ظل معدلات النمو المرتفعة وزيادة دخل الطبقة الوسطى وتنامي احتياجاتها الحياتية. وتستورد دول آسيا حوالي 60% من صادرات الغاز العالمي.
إيران والمنطقة العربية
تتجه استراتيجية إيران في المنطقة، أولاً، للسيطرة على إمدادات الغاز في الدول العربية والخليجية عبر مد شبكة خطوط أنابيب في كامل دول المنطقة. وبهذه الشبكة ستزيد اعتماد الدول العربية عليها في إمدادات الغاز.
ومعروف أن الغاز مصدر حيوي لتوليد الكهرباء والوقود والتدفئة والطبخ. وبالتالي، فسيكون من الصعب على الدول العربية الداخلة في شبكة الغاز الإيرانية الفكاك منها مستقبلاً.
أما الشق الثاني من الاستراتيجية، فهو استغلال الأراضي السورية واللبنانية لتصدير الغاز مستقبلاً إلى أوروبا عبر البحر المتوسط، كما ستستغل الأراضي العراقية مستقبلاً لتصدير الغاز إلى دول الخليج.
ومعروف لدى خبراء الطاقة، أن أحد أهداف حكومة طهران في اليمن، هو احتواء السعودية كدولة مركزية قوية وإضعاف مركزها كدولة نفطية كبرى، واستغلال "مليشيا الحوثي" للسيطرة على باب المندب الذي يعد من أهم الممرات للطاقة العالمية إلى جانب مضيق هرمز لتغذية السوق الآسيوية. ويمر أكثر من 3 ملايين برميل من النفط يومياً عبر باب المندب إلى أسواق العالم.
ويلاحظ أن حكومة طهران تستغل الغاز في علاقاتها مع باكستان، لإبعادها عن السعودية، وتغريها في ذلك بصفقات غاز رخيصة ورسوم مجزية مستقبلاً لتمرير تصدير الغاز عبر أراضيها إلى الهند مستقبلاً.
من هذا المنطلق يمكن فهم استراتيجية تمدد النفوذ الإيراني في المنطقة العربية، والصرف الباذخ على حزب الله في لبنان والمليشيات الشيعية في العراق وتفريغه من السنّة، وقتال قاسم سلماني المستميت للحفاظ على نظام بشار الأسد في سورية.
اقرأ أيضاً: الحلفاء يبيضون ذهباً لإيران
كل هذه المخططات الخاصة بالطاقة، كانت مجمدة ويعترضها الحظر الغربي على إيران وانعدام التمويل بسبب مخاوف البنوك العالمية من العقوبات الأميركية. ولكن في أعقاب توقيع الاتفاق النووي بداية الشهر الجاري، وتداعيات " تخادم المصالح" بين طهران وواشنطن، أصبحت هذه الاستراتيجية الخطرة ممكنة إلى حد ما، إن لم يعترضها مجلس التعاون الخليجي ورسم الخطوط الحمراء في التعامل مع إيران.
فجوة الطموح والواقع
رغم تملك إيران ثاني أكبر احتياطي للغاز في العالم بعد روسيا، إلا أنها لم تصبح لاعباً رئيسياً في سوق الغاز العالمية طوال العقود الماضية، لعدة أسباب، أهمها الحظر الاقتصادي والمالي العالمي وعلاقات العداء مع دول الجوار، خاصة العراق قبل سقوط نظام صدام حسين.
ولدى إيران احتياطات من الغاز الطبيعي القابل للاستخراج يعادل 16% من الاحتياطي العالمي. ولكنها ظلت "العملاق المغيب" عن سوق الطاقة العالمية منذ سقوط نظام الشاه في عام 1979، ورغم أن عقبات تطوير صناعة الطاقة الإيرانية، وعلى رأسها الغاز، لن تنتهي كلياً حتى في أعقاب إجازة الكونغرس الأميركي للاتفاق النووي، وذلك لسببين، أولهما جزء من الحظر الأميركي على إيران لا علاقة له بالملف النووي، وإنما يتعلق بملف إيران الإرهابي وأسلحتها البالستية، والثاني مخاوف البنوك الغربية لدخول السوق الإيرانية وتمويل صفقات تطوير واستخراج الغاز الإيراني.
ولكن رغم احتمالية بقاء بعض العقبات، يرى خبراء أن إيران ربما تصبح خلال عقد من الزمان، لاعباً كبيراً في سوق الطاقة العالمية بما تملكه من احتياطات في مجال النفط والغاز، وربما كذلك باحتمال سيطرتها مستقبلاً على القرار العراقي، وبالتالي سياسة استخدام احتياطات الطاقة في العراق. وهي بذلك ربما تصبح بمثابة " الحصان الأسود" في سوق الطاقة الذي ربما يفاجئ الكل بكسب السباق.
ولدى إيران خطة لاستثمار 100 مليار دولار في تطوير صناعة الغاز خلال 10 سنوات، كشف عنها المدير العام لشركة الغاز الإيرانية في مؤتمر باريس للغاز، عقد بداية شهر يونيو/ حزيران الماضي. كما أجرت محادثات مع حوالي 70 شركة عالمية لتطوير صناعة الغاز، خاصة في حقل فارس الذي يحتوي على 40% من احتياطات الغاز في إيران.
70 مليار متر مكعب
منذ عقود، ظلت إيران تعلن عن خطط طموحة لتصدير الغاز، ولكن على مستوى الواقع العملي لم يتحقق منها شيء. وقالت شركة الغاز الوطنية الإيرانية في تصريحاتها في عام 2011، إنها تطمح لأخذ حصة 10% من سوق الغاز العالمية، أي قرابة 70 مليار متر مكعب من الغاز، حسب أرقام معهد أوكسفورد لدراسات الطاقة.
وحتى الآن ظلت إيران مستورداً صافياً للطاقة، أي أنها تستورد أكثر مما تصدر. وحسب أرقام الصادرات الإيرانية للغاز، فإنها صدرت سنوياً قرابة 9 مليارات متر مكعب من الغاز في المتوسط خلال الأعوام الماضية، مقابل استيراد 10 مليارات متر مكعب من تركمانستان.
وصدرت إيران خلال الأعوام الماضية كميات من الغاز بلغت 8.4 مليارات متر مكعب من الغاز إلى تركيا و0.45 مليار متر مكعب من الغاز إلى أرمينيا و0.25 مليار متر مكعب من الغاز إلى أذربيجان.
وتواجه صادرات الغاز الإيرانية إلى تركيا عقبات تتعلق بالسعر المرتفع الذي تدفعه شركة الطاقة التركية بوتاش للغاز الإيراني.
كما أن إيران ترغب في زيادة صادراتها إلى تركيا إلى 20 مليار متر مكعب خلال السنوات المقبلة، ولكن هنالك قضايا مرفوعة في المحاكم التجارية الدولية لا بد من تسويتها. وإضافة إلى هذه العقبات، فإن إيران لا ترغب في دفع رسوم مجزية على الغاز الذي من المتوقع أن يمر مستقبلاً عبر الأراضي التركية إلى الأسواق الخارجية.
احتياطيات إيران
تقدر احتياطيات إيران من الغاز الطبيعي بنحو 29.61 ترليون متر مكعب، وهو ما يشكل 16% من احتياطيات الغاز في العالم.
وتنتج حالياً فقط 8.2 ترليونات قدم مكعبة سنوياً .
يذكر أن حقل "فارس الجنوبي" أكبر حقول الغاز الإيرانية، يحتوي وحده على نسبة 40% من إجمالي احتياطياتها الغازية.
وكانت الحكومة الإيرانية قد تعاقدت على تطوير هذا الحقل مع شركات غربية، إلا أن الشركات انسحبت في أعقاب تشديد الحظر الأميركي. كما فشلت شركة الغاز الإيرانية في استغلاله.
اقرأ أيضاً:
طهران واستغلال اجتماع "أوبك"
إلزام شركة إسرائيلية بدفع 1.1 مليار دولار لإيران
إيران: معظم دول أوبك مع رفع أسعار النفط