قبل ما يزيد على سبعة عقود، ضمّ الأردن الضفة الغربية بعد الجولة الأولى من الصراع العربي الإسرائيلي عام 1948، وخسرها أمام إسرائيل في حرب 1967 قبل فكّ الارتباط الإداري والقانوني مع الضفة عام 1988. وفيما تخطط إسرائيل لضمّ غور الأردن اليوم، تجد المملكة نفسها مرة أخرى أمام لحظة مفصلية من التحديات الأمنية والديمغرافية الآتية من الجانب الغربي من نهر الأردن، وفي مواجهة خيارات صعبة لناحية إيجاد توازن بين احتواء الضغوط الداخلية والحفاظ على العلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة وتفادي انهيار كامل لمعاهدة السلام مع إسرائيل.
ضمّ غور الأردن، الذي يشمل نحو 30 في المائة من مساحة الضفة الغربية المحتلة، يكرّس رسمياً أمراً واقعاً يفرضه الاحتلال، في خطوة متوقعة الشهر المقبل، بمجرّد التوصل إلى اتفاق على الخريطة من قبل لجنة أميركية إسرائيلية تستبعد من اجتماعاتها أي ممثلين عن الطرفين الفلسطيني والأردني. العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، كان قد حذّر في 15 مايو/ أيار الماضي من "صراع واسع النطاق" إذا ضمت إسرائيل غور الأردن.
إنها ليست المرة الأولى التي تعرض فيها إسرائيل خططاً لتقسيم الضفة الغربية. في عام 1967، عرض الوزير الإسرائيلي الأسبق يغال ألون، خطة لتقسيم الضفة بين إسرائيل والأردن تقضي بضمّ معظم غور الأردن من النهر إلى المنحدرات الشرقية للضفة الغربية، فيما تكون الأجزاء الباقية منطقة حكم ذاتي فلسطينية أو تخضع للسيطرة الأردنية. لكن الملك حسين رفض حينها هذه الخطة. مقاربة نتنياهو الحالية تحاكي خطة ألون، لكن الجدل الإسرائيلي حول الخيار الفلسطيني أو الأردني للسيطرة على الجزء الفلسطيني من الضفة الغربية قد تبدد بالكامل، واستبدل بالخيار الإسرائيلي.
منذ سقوط خطة ألون، وسّعت إسرائيل تدريجاً أنشطتها الاستيطانية على نحو 86 في المائة من غور الأردن، حيث يقدَّر عدد الفلسطينيين هناك بنحو 65,000، وقد قال نتنياهو في 28 مايو/ أيار الماضي، إنهم لن يحصلوا على الجنسية الإسرائيلية، بل سيكونون في تلك المناطق رعايا، في ما وصفها بـ"جيوب فلسطينية" تحت الحكم الفلسطيني، ولكن تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية. التأثير الأكثر أهمية للضم هو تقويض فرص إعلان دولة فلسطينية في المستقبل، وبالتالي ترك مصير الفلسطينيين في الأردن معلقاً من دون جنسية أردنية أو دولة فلسطينية.
لطالما حذرت عمّان من محاولات إسرائيل لجعل الأردن "وطناً بديلاً" للفلسطينيين، وخطة نتنياهو تأتي لتعزز هذا القلق وتغيّر الدينامية الداخلية في المملكة، وتشكّل مصدراً للتوتر عبر الحدود. الضغط المحلي على الملك عبد الله الثاني سيزداد عند دخول خطط الضم حيز التنفيذ الشهر المقبل. كتلة "الإصلاح" النيابية أصدرت بياناً الشهر الماضي، حثّت فيه الحكومة الأردنية على تبني خطة طوارئ تتضمن إلغاء معاهدة السلام وصفقات استيراد الغاز الإسرائيلي التي كانت قد أثارت احتجاجات في الأردن خلال الفترة الماضية. وهذا الضغط الداخلي سيزداد إذا لم يعط الملك انطباعاً باتخاذ إجراءات دبلوماسية كافية ضدّ إسرائيل إذا مضت بخطط الضم.
نهاية معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية
في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2009، وصف الملك عبد الله الثاني معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية على النحو الآتي: "إنه سلام بارد، وعلاقتنا تزداد برودة". بعد أكثر من عشر سنوات، الأمور ليست في أفضل حالاتها. معاهدة السلام التي وُقعت عام 1994 رسمت جزءاً من الحدود الأردنية مع الأراضي المحتلة على طول نهري الأردن واليرموك، وأنشأت منطقة وادي الأردن "كحدود إدارية" أو منطقة عازلة بين الأردن والفلسطينيين في الضفة الغربية. خطة نتنياهو تُلغي هذه "الحدود الإدارية" وتدخلها ضمن "الحدود الإسرائيلية"، وبالتالي تنتهك البند الوارد في المعاهدة الذي يقضي باجتماع لجنة الحدود المشتركة لتعديل هذا الخط الحدودي. لكن هناك غموض أصلاً في نصّ المعاهدة حول مصير هذه الحدود الإدارية عند القول: "هذا الخط هو الحدود الإدارية بين الأردن والأراضي التي خضعت لسيطرة الحكومة العسكرية الإسرائيلية في عام 1967. أي معاملة لهذا الخط يجب ألا يمس بوضع المنطقة". الصياغة لا تعترف صراحة بغور الأردن كأرض فلسطينية، وبالتالي تركت الباب مفتوحاً لضم محتمل.
بالنسبة إلى المملكة، خطة الضم لا تغيّر الوضع الحدودي في غور الأردن حيث لا يزال معبر جسر اللنبي (جسر الملك حسين) الذي يفصل الأردن عن الضفة الغربية تحت السيطرة الإسرائيلية. ومع ذلك، احتمال غياب التنسيق بين الجانبين قد يؤدي إلى توتر عبر الحدود أو حتى تعطيل الشريان الحيوي الوحيد الذي يربط الضفة الغربية بالأردن. وقد أشار نتنياهو أخيراً إلى أنّ "السلام مع الأردن مصلحة حيوية ليس فقط لدولة إسرائيل، ولكن أيضاً للأردن"، وبدا واثقاً من استمرار معاهدة السلام، بقوله: "لا أعتقد أنها ستتغير. ومع ذلك، من الطبيعي أن تثير مثل هذه التحركات مخاوف". يلمّح المسؤولون الأردنيون، من جهتهم، إلى أنّ عمان قد تتخذ إجراءات تصعيدية بتعليق جزء من معاهدة السلام، لكن يبدو أنّ محاولة إسرائيل استيعاب أي ردّ أردني محتمل قد نجحت حتى الآن على الأقل، لكن الأنظار ستكون على عمان الشهر المقبل مع بداية تنفيذ إجراءات الضم.
العلاقات الأميركية-الأردنية بعد الضم
العلاقات الأميركية الأردنية ليست في لحظة انهيار بطبيعة الحال، لكنها أصبحت معقدة بشكل متزايد دون حدّ أدنى من التواصل بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب والملك عبد الله الثاني. الأردن عارض خطة السلام الأميركية المعروفة بـ"صفقة القرن"، والهادفة إلى تصفية القضية الفلسطينية، بداية العام الحالي، والسلطات الأردنية تدرك أن إدارة ترامب لا ترغب في وقف خطط الضم الإسرائيلية، فيما أثبتت زيارة وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو لإسرائيل الشهر الماضي، أن أقصى ما ستفعله واشنطن هو التشديد على أنّ ما تفعله الحكومة الإسرائيلية لا يتعارض مع خطة السلام الأميركية.
وقد لاقى تحذير الملك عبد الله بشأن "صراع واسع النطاق"، إذا ما واصلت إسرائيل عملية الضم، استقبالاً بارداً في واشنطن، حيث لم تبادر إدارة ترامب إلى تقديم أي ضمانات عالية المستوى للمملكة. وجاء ردّ الفعل الرسمي الوحيد من المتحدثة باسم وزارة الخارجية مورغان أورتاغوس، التي حذرت الأردن ضمنياً في لقاء مع صحافيين إسرائيليين في وقت سابق، من تصعيد التوتر مع إسرائيل قبل تحويل تركيزها إلى خطة ترامب للسلام.
هناك، دون شكّ، تصدّعات في العلاقات الأميركية الأردنية، كما كان واضحاً في الرسالة التي وجهها الشهر الماضي ستة أعضاء جمهوريين في الكونغرس إلى السفارة الأردنية في واشنطن، تطالب بتسليم أحلام التميمي التي شاركت في عملية تفجير مطعم إسرائيلي في القدس عام 2001. تبدو هذه الرسالة تحذيراً مبطناً للمملكة، بأنّ رفض طلب تسليم التميمي لقتلها مواطنين أميركيين في هذا التفجير، يمكن استخدامه ذريعةً لوقف المساعدات الأميركية للأردن التي تبلغ 1.8 مليار دولار سنوياً.
في 28 مايو/ أيار الماضي، تحدث بومبيو عبر الهاتف مع نظيره الأردني أيمن الصفدي، لكن بيان وزارة الخارجية الأميركية لم يشر إلى خطط الضم الإسرائيلية كإحدى القضايا التي جرت مناقشتها، فيما لفت البيان الأردني إلى أنّ الصفدي أكد "موقف المملكة الذي يعارض أي ضم للأراضي الفلسطينية، وهي خطوة من شأنها أن تقوّض فرص السلام". هناك حاجة ملحّة لعقد اجتماع بين الرئيس الأميركي والملك الأردني للتخفيف من أي تأثير على العلاقة بين البلدين، لكن يبدو كأنّ ترامب يعتقد بأنّ الأردن ليس لديه خيار سوى التأقلم مع قرار الضمّ إذا ما كان يريد الحفاظ على المستويات الحالية من المساعدات الأميركية.
خيارات الأردن لمواجهة الضم
واجه الأردن منذ عام 1948 تحديات متكررة في إطار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. كان الملك حسين حريصاً على التوصّل إلى اتفاق سلام يعالج التحدي الديموغرافي في الأردن، لكن كانت لديه علاقة معقدة مع "منظمة التحرير الفلسطينية"، ورأى أنّ العوائق الرئيسية كانت الانقسامات الداخلية الإسرائيلية، وتردّد واشنطن في الضغط على إسرائيل. هذه المعادلة تغيّرت اليوم في ظلّ حكومة وحدة في إسرائيل تنوي تنفيذ خطة الضم بدعم أميركي مطلق.
عندما اعترف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل في ديسمبر/ كانون الأول عام 2017، كان لدى عمان خيارات محدودة لتسجيل معارضتها، وبدأت حينها استدارة في سياستها الخارجية بلغت ذروتها العام الماضي عبر اتخاذ مواقف محايدة في الأزمة الخليجية والانفتاح على تركيا. لكن يبدو كأن نتنياهو يحاول ضبط هذه الاستدارة الأردنية كما كان واضحاً في تقرير لصحيفة "إسرائيل هيوم" أخيراً، الذي تحدث عن وساطة أميركية بين إسرائيل والسعودية لمنح الرياض مندوبين في مجلس الأوقاف الإسلامية في الحرم القدسي لردع النفوذ التركي في القدس المحتلة. هذه التسريبات حول مستقبل الوصاية الهاشمية على المقدسات الدينية في القدس، تسلّط الضوء على هذا الدور الرمزي الذي يشكل آخر بقايا النفوذ الأردني في الضفة الغربية، وقد قاومت المملكة منذ فترة طويلة محاولات مشاركتها أو انتزاع هذه الوصاية منها. رسالة نتنياهو للملك عبد الله قد تكون بأنه سيخسر أكثر مما يفوز إذا ذهب بعيداً في تحدي خطط الضم الإسرائيلية.
من المرجَّح أن يركز الأردن إجراءاته الدبلوماسية التصعيدية باتجاه إسرائيل، بدلاً من استفزاز إدارة ترامب. يمكن المملكة استدعاء سفيرها في إسرائيل وطرد السفير الإسرائيلي لدى الأردن، وأيضاً تعليق بعض أجزاء معاهدة السلام مع إسرائيل، مثل لجنة الحدود المشتركة، أو إيقاف التنسيق العسكري والأمني على الحدود. لكن إلغاء معاهدة السلام يستعيد حالة النزاع بين الأردن وإسرائيل، وهي خطوة يمكن أن تعرّض المساعدات الأميركية لعمان للخطر. قد تكون المملكة وصلت إلى أقصى حدود استدارتها في السياسة الخارجية، نظراً للأزمة الاقتصادية الحادة في البلاد وتداعيات انتشار فيروس كورونا. سيتعيّن على الأردن السير على خط رفيع يوازن بين الردّ الدبلوماسي على خطط الضم مع تفادي تدمير جسور التواصل مع الولايات المتحدة وإسرائيل.