خرج ولم يعد

12 اغسطس 2015
+ الخط -

في إحصائية أولية، قامت بها الوحدة القانونية في مركز الميزان لحقوق الإنسان في غزة، وبعد مرور عام على العدوان الإسرائيلي الماضي، تم الكشف عن وجود خمسة ملفات لأشخاص مجهولي المصير، قيّد غيابهم تحت بند" خرج ولم يعد"، فيما كان هناك، وخلال عام من البحث والتحرّي، حوالى 24 مفقوداً من غزة، خرجوا من بيوت أهاليهم إبّان العدوان، واختفت آثارهم، وتبين أنهم سجناء لدى الجانب الإسرائيلي، وقد تم اعتقالهم في أثناء الاجتياح البري لحدود القطاع.

وقبل أيام، أعلن العثور على جثة تحت الأنقاض لأحد أفراد عائلة، تعرض بيتها للقصف خلال الحرب بصاروخين، زنة الواحد طن من المتفجرات، وذلك بعد إزالة ركام المنزل في منطقة حي التفاح، مما أدى إلى سقوط 21 شهيداً من العائلة، واختفاء آثار هذا الابن عاماً، حتى تم العثور على جثته.

الملفات التي لم تغلق بخصوص المفقودين،  ما زال أهلها يشعرون بأن الحرب لم تنته في بيوتهم، حسب تعبيرهم، لأنهم ما زالوا يعيشون حالة متأرجحة بين الأمل واليأس، ويهيئون أنفسهم لتقبل أي خبر عن عزيزهم، بما فيه الموت أو الاعتقال لدى الاحتلال، ويرون أن أحد الخبرين أقل وقعاً من غموض اختفائه.

في عام 1956، خرج أحد أبناء الحاجة حليمة، كما كانت معروفة في المخيم حتى وفاتها، ليقوم بمهمة الحراسة، مثل جندي متطوع، عندما كانت غزة تخضع لحكم  الإدارة  المصرية، وفيما كان يقوم بمهمته على الحدود، ويرسل راتبه الشهري (أربعة جنيهات مصرية) إلى والديه، اختفت آثاره، وانقطعت أخباره، وتوفي شقيقه الثاني في حادث سير، وسقط الثالث شهيداً. وهكذا أصحبت تعرف هذه الأم الثكلى باسمها، مجرداً من دون كنية، لأنها فقدت أولادها الثلاثة، وعاشت حتى بلغت من العمر عتياً، على أمل أن تسمع خبراً عن ابنها  المفقود، بعد أن سلمت بقضاء الله في موت الاثنين الآخرين، وكانت تجتمع مع نساء المخيم، وتردد أمامهم مقولة حفظتها الجارات جيداً: (قلبي ينبئني بأنه ما زال حياً يرزق)، حتى وصل إلى غزة رسول من سيناء في 1987، ليخبر الوالدين المفجوعين عن رجلٍ ثري من جذور فلسطينية، يبحث عن والديه، وقد خرج من غزة، مجتازاً الحدود عن طريق الخطأ في 1956. وعلى عجالة، شد الوالدان الرحال إلى مصر، بعد أن زودهما الرسول بعنوان الرجل، وحين التقيا به، أنكرته الأم، وطلبت العودة سريعاً إلى غزة. وحين عادت، حدّثت جاراتها أنها عثرت على ابنها المفقود، لكنه، كما فهمت من الرسول الذي أوصلها إلى ابنها، قد أثري من تجارة مشبوهة، بعد أن عثر عليه مهربون، ولم يكن وقتها قد تجاوز العشرين من عمره، وأصبح يعمل معهم، وهكذا تغيرت مقولة الأم التي ترددها بين الجارات، حتى وافتها المنية، فقد ظلت تردد: "ليته مات".

يترك الابن المفقود وجعاً للأم تحديداً، وفي كل يوم تقيد أعداد لا تحصى من قضايا اختفاء الأطفال، وقليلاً ما يطالعنا الإعلام بخبر عن العثور على ابن مفقود، بعد ربع قرن مثلاً، كاشفاً عن أدق تفاصيل حياته الأولى بين ذويه. لذلك، لم  تتوقف السينما المصرية عن تناول هذه القضية الموجعة، وقد أضافت بهارات محبوكة لأحداثها  لاستدرار دموعنا أمام الشاشة، مثل شامة على كتف الطفل المختفي، أو سلسلة في عنق الطفلة المختفية، ليتتبعها أهله، أملاً في أن تكون الخيط الذي يدلهم عليه. ولذلك، أمتعنا الفنان حسن حسني، حين قام بدور الأب الذي فقد ابنته، وظل يتتبع سلسلة كانت في عنقها في قالب كوميدي، فيصطدم كل مرة بفتاة ليست ابنته.   

عندما عشت الأحداث الأخيرة من قصة الحاجة حليمة، اعتقدتُ أن قصة فيلم "المولد" الذي قام ببطولته عادل إمام مستوحاة من قصتها الواقعية، عن طفل تفقده أمه في المولد، ويلتقيها بعد أن يصبح أحد أفراد عصابة دولية خطرة.

 

 

 

 

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.