خراب عدن: ممارسات إماراتية تذكّر بالاحتلال البريطاني

03 مارس 2019
دفعت أبوظبي الموالين لها لتصدّر المشهد بعدن(صالح العبيدي/فرانس برس)
+ الخط -
"عدن خربوها من زمان، وجاءت الحرب لتكمل القضاء على ما تبقّى من معالم وهوية عدن المدنية، فلم نعد نعرفها اليوم... اليوم لا نستطيع أن نتحرك أو نتكلم، أو حتى اللعب بأوراق الشدة في الشارع، فانتشر القتل، ولم تعد تعرف من هو جارك، حتى سلوكيات أولادنا تغيّرت... وزادت الأمور سوءاً مع انتهاء الحرب الحوثية على عدن، فأصبحنا نخاف أن يقال عنا لسنا عدنيين، مع الوجوه الجديدة والقادمين من القرى والجبال"، بهذه الكلمات يصف محمد طه، وهو من أبناء منطقة الشيخ عثمان في عدن وعايش الاستعمار البريطاني، لـ"العربي الجديد"، الوجه الجديد غير المألوف لمدينة عدن اليمنية، التي بحسب الكثير من أهلها، لم تعد كما في السابق، بل شهدت تحوّلاً كبيراً يعتبره المتسبّبون به تبدلاً إلى الأفضل، طالما هو يُقدّم مشروع الإمارات وحلفائها إلى الواجهة، فيما يراه الآخرون تغييراً إلى الأسوأ ويُخرِج عدن عن طبيعتها وجمالها المألوف، في رموزها ومدنيتها وطقوسها، وتنّوعها السكاني والثقافي والديني والمذهبي والطبقي، وحتى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، الذي تميّزت به المنطقة لعقود طويلة.

وشرعت الإمارات وحلفاؤها، منذ سيطرتها على عدن، في فرض واقع مغاير لصورة المدينة، من خلال العديد من الممارسات، التي بدّلت وجه المنطقة. يقول السبعيني جعفر مقبل، لـ"العربي الجديد"، إن "الواقع تغيّر والناس تغيّرت وكذلك شكل الحياة في عدن، وحتى العلاقات الاجتماعية تبدّلت، وبعض الطقوس بما فيها الأعراس"، متهماً كل الأطراف التي حكمت عدن، بما فيها الحالية، بالمسؤولية عن ذلك، معاتباً الحكومة الشرعية لفشلها في وقف هذا التدهور الذي تعيشه المدينة، والناس فيها، ووقف استهداف طبيعتها ومدنيتها.

وطاول الاستهداف الإماراتي لعدن المجال الديني فيها، مع دعم أبوظبي لفرض نمط الصوفية عبر جناح من السلفيين الموالين لها، فصَّلتهم وفق مقاسها ليكونوا حلفاء لها، ويفرضوا الواقع الديني كما تريده. ويقول المواطن العدني، عدنان عفش، لـ"العربي الجديد"، إن "هذا الواقع الديني يُخرج عدن من ميزتها المعروفة، وهي تنّوعها، إذ احتضنت كل الديانات والمذاهب والعرقيات، الإسلامية واليهودية والمسيحية والبوذية، وحتى الفرس والهنود والباكستانيين والعرب وغيرهم، وما إن تحررت عدن حتى بدأ استهداف التنّوع فيها من قبل قِوات هي الآن تحت إشراف الإمارات، وهم السلفيون المنخرطون ضمن قوات الحزام الأمني، من خلال استهداف المعابد والكنائس في عدن، والتضييق على الحريات الدينية، فضلاً عن تغيير خطباء أغلب المساجد والمراكز الدينية".

ويتخوّف كثيرون من تبعات هذه التحوّلات على المجتمع. ويقول مسؤول في قيادة محافظة عدن، طلب عدم ذكر اسمه، لـ"العربي الجديد"، إن محاولة فرض هذا الواقع تقسّم المجتمع وتعقّد الحلول للمشاكل، فمن غير المقبول فرض رأي واحد وتوجّه محدد على المجتمع، فيما الناس حاربت هذا الأمر لعقود طويلة، ويأتي اليوم من يعيده بل يستهدف قيادات المجتمع، وفي مقدمتها ممثلوهم كالرئيس اليمني عبدربه منصور هادي وقيادات جنوبية تاريخية، وذلك في مسعى لفرض مشروع خارجي. ويعتبر هذا الأمر "استفزازاً للناس، وتغييراً لهوية مؤسسات الدولة والبلد المتعارف عليها في القانون والدستور"، مشيراً إلى أن هناك مرافق في محافظة عدن تخضع لأطراف في التحالف السعودي-الإماراتي، وحتى أن بعض الموالين لهم يزيلون صور هادي ويضعون مكانها صور قادة آخرين، كقادة الإمارات وبعض القيادات المستجدة والمدعومة من أبوظبي.


محاولات تغيير وجه عدن، تبدو واضحة في شوارع المدينة، التي رُفعت في الكثير منها شعارات وأعلام وصور قادة الإمارات و"المجلس الانتقالي"، واختفت تماماً صور القيادات الجنوبية التاريخية وحتى صور هادي، والتي لا تظهر إلا في بعض مناطق تواجد حاضنته الشعبية والقوات الموالية للشرعية. كما حلّت أعلام وشعارات الإمارات وحلفائها محل الشعارات والأعلام اليمنية في الكثير من المدارس. وحول ذلك تقول المعلمة إيمان، التي فضّلت التعريف عن نفسها باسمها الأول فقط، لـ"العربي الجديد"، "عندما أدخل المدرسة التي أعمل فيها ولا أجد ما يشير إلى هوية المنطقة، فيما تحضر هوية دولة أخرى، أشعر بألم شديد، خصوصاً أنني لا أستطيع رفع علم أو شعار فيها لأن ذلك قد يكون سبب فصلي من العمل، هذا إذا لم يكن سبباً في اعتقالي أو الاعتداء علي". ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ تم استهداف مديري مدارس في عدن وقتل العديد منهم، مثل مديري مدارس البنيان فهد اليونسي ومحمد علي الزغير، فضلاً عن اغتيال مدير مدرسة يُدعى علي محمد الدعوسي، وغيرهم، مع توجيه الاتهامات لأبوظبي وحلفائها من قبل خصومهم بالوقوف وراء هذه العمليات.

التغيير في المشهد العدني طاول أيضاً منظمات المجتمع المدني، ووسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، من خلال محاولة الاستيلاء على أرشيف "قناة عدن" وأيضاً "صحيفة 14 أكتوبر" الحكومية. وتدعم الإمارات وحلفاؤها عدداً كبيراً من وسائل الإعلام والمواقع، فضلاً عن تأسيس بعضها للترويج لسياساتها، فيما تعمل على تضييق الخناق على الآخرين، من خلال التحريض والتهديد، ضد من لا ينخرط ضمن صفوف مشروعها والعمل في الوسائل التابعة لها. ويتولى "المجلس الانتقالي" تنفيذ المهمة ميدانياً نيابة عن الإمارات، ويستهدف الصحافيين ومنظمات المجتمع المدني، التي يرى أنها لا تعكس توجّهه أو تهاجم الإمارات، مثل تضييق الخناق وملاحقة مراسلي وسائل إعلام خارجية والتحريض ضدهم كقناة "الجزيرة"، ومهاجمة وإحراق مطابع ومقر مؤسسة الشموع للصحافة والطباعة.

وجه آخر من استهداف أبوظبي لعدن يتمثل في استقطاب موالين لها من خارج المنطقة والاعتماد عليهم للاستيلاء على المدينة وإبعاد من كانوا يديرون عدن قبل الحرب، بل نقل معسكرات من يافع والضالع إلى عدن، كما يقول المواطن العدني محمد السعيدي.
بل إن أحد الباحثين السياسيين الجنوبيين، الذي فضّل عدم ذكر اسمه، يقول لـ"العربي الجديد" إن الإمارات توفّر غطاء لعمليات نهب الأراضي والمنازل التي يقف خلفها قادة في قوات وجماعات تموّلها، وذلك من أجل التغيير الديمغرافي لعدن، عبر إفساح المجال للقادمين من خارج المنطقة للتمركز في عدن وإعادة تشكيل صورة المجتمع من خلال سكان جدد، وفرضهم كوجوه جديدة لتمثيل المدينة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، وهي الفكرة التي حاول الرئيس الراحل علي عبدالله صالح تطبيقها في عدن. وتُتهم الإمارات بتحريك عناصر يتبعون لها ويحسبون على قبائل محددة في عدن، للقيام بأعمال بسط السيطرة، فضلاً عن إيكال مهمة إدارة عدد من المرافق مقابل إقصاء أبناء عدن.

ويرى الباحث نفسه أن الإمارات وعبر حلفائها، بدأت في اختراق الاقتصاد اليمني، وباتت تدفع بالكثير من التجار من مناطق يافع والضالع، لتصدّر المشهد الاقتصادي في عدن، من خلال فتح المجال لهم في المقاولات وحماية تجارتهم، وحتى في توريد الصادرات الإماراتية إلى السوق اليمنية، فالأزياء العسكرية والأمنية، والرُتب التي باتت تشاهد على أكتاف عناصر التشكيلات الأمنية المختلفة، هي من الأزياء الإماراتية، وتوضع عليها الأعلام والشعارات الإماراتية. ليس هذا فحسب بل إن الأسواق في عدن تغرق بالواردات الإماراتية، لتتحوّل المدينة إلى سوق للمنتجات الإماراتية، فضلاً عن بعض المصنوعات الغذائية، بالتوازي مع تضييق الخناق على الرموز الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي لا تقف مع مشروع أبوظبي، ومحاولة تدمير حرية الرأي والتعبير التي جاءت بها ثورة فبراير، وكذلك مخرجات الحوار الوطني والقانون والدستور في الدرجة الأساسية.

ويفصّل المواطن محمد الخضر الحالة التي وصلت إليها عدن، بالقول إنها تشبه إلى حد كبير ما حاول البريطانيون فعله في عدن أثناء الاحتلال، وكذلك ما حاولت الإيديولوجية الاشتراكية فرضه على عدن خصوصاً والجنوب عامة في فترة ما قبل الوحدة، من خلال تغيير الفكر وتقييد الحريات وفرض رأي سياسي واحد، وشنّ حرب على رجال الدين، ومحاربة الرموز الاقتصادية، وتأميم الممتلكات الخاصة، ما اضطر الكثير من الناس إلى الهجرة حينها، وفي مقدمتهم رؤوس الأموال، سواء إلى شمال الوطن، أو إلى الخارج، كدول الخليج وشرق آسيا. ويشير إلى أن هذا الأمر يتكرر اليوم بثوب "التحرير والاستقلال"، وبالتالي تبديل رموز عدن برموز من خارجها، وتبديل القيادات الجنوبية السياسية والعسكرية والأمنية والمدنية، بقيادات تتم صناعتها وفقاً لمشروع عدن الإماراتي. ومع ذلك فإن الخضر يعتبر أن محاولة إلباس عدن ثوباً غير ثوبها ستفشل، فمن أسقط نظام علي عبدالله صالح، وتخلّص من الحوثيين، سيتخلص ممن جاء بعدهما.
بينما يكتفي أحد القادة السياسيين الجنوبيين البارزين بالقول لـ"العربي الجديد": "لقد دمروا عدن (في إشارة إلى حلفاء الإمارات)، وأساؤوا لناسها ومدنيّتها ونضال أهلها وتضحياتهم، ولم تلن قلوبهم لمعاناة الناس، بل استغلوها لصالح مشاريع خارجية".

المساهمون