خبراء مخبرون: دكاترة السلطان

10 أكتوبر 2014

عمل بصري لـ"غاري واتر"

+ الخط -

في كل مرة تنشر صحيفة غربية أميركية، أو غيرها، مقالة تصف الأحوال في مصر، أو تقيمها لما بعد سهرة 30 يونيو وانقلاب الثالث من يوليو، وبغض النظر عن موضوع هذه المقالات، سواء كانت تتحدث عن استقرار النظام بعد الانتخابات الرئاسية، أو توجه نقداً حاداً، أو شبه حاد، لوصف الأوضاع في مصر، وتقييم ما آلت إليه الأحوال بعد انقلاب الثالث من يوليو.

سنجد من يصعد هذه المقالات، وفقا لما هو في صالحه أو مصلحته؛ حيث تدار معركة، هنا وهناك، حول المضامين، من دون أن يفكر هذا أو ذاك في أمرٍ جوهري، يتعلق بطبيعة النظر لمقام التأثير في عمليات الثورة والتغيير. يتناسى هؤلاء جميعاً أن الأمر الفصل والحاسم في أي معادلات يمكن أن يحدث تأثيراً وفاعلية، لا يمكن أن يكون من الخارج، أو من إعلامه، أو من تهليل لرأي هنا أو هناك، ولكن الأمر الحاسم في كل شأن يتعلق بصياغة مستقبل مصر، خصوصاً فيما بعد ثورة 25 يناير، إنما هو الشعب بكل تنوعاته الذي يشكل رقماً صعباً، حال اتحاده وحال احتجاجه وحال وعيه بشأن ثورته، استكمالاً واستمراراً.

وتبدو المنظومة الانقلابية في حيرة من أمرها، حينما تصاب بمرض عضالٍ، يتعلق بارتكابها اغتصاباً أساسياً لسلطةٍ شرعيةٍ، فتتحرك ضمن عملية شرعنة من الداخل، في محاولة لإضفاء شرعية على تأسيسها وسياساتها. وفي الوقت نفسه، فإنها تتسول في الخارج ما يمكن أن يشكل غطاء لشرعية انقلابها واغتصابها. ومن ثم تهتم اهتماماً مرضياً بهذا الشأن، وتمارس كل ما من شأنه أن يحقق ما تتصور أنه انتصار لها في معركة الشرعنة والشرعية. وغاية أمرها في ذلك أنها قسّمت الشعب إلى أكثر من صنف، حتى تتمكن من استبعاد من شاءت، وتتحدث باسم من أرادت.

في هذا المقام، تبدو الخطورة واضحة وبادية، حينما يكون ذلك محور سياسات منظومة الانقلاب وتحركاتها، ففي معركة المنقلب ونظامه حول خطابه في الجمعية العامة، حاولوا ترويج صورة مزيفة لنجاحاتهم، واكتسابهم الشرعية الدولية في هذا المقام. وقام الإعلاميون وبعض "دكاترة السلطان" بعملٍ يحاولون التأكيد فيه على نصرٍ زائفٍ، اكتسبوه بشرعنة وضع باطل، ووجدوا سنداً هنا أو هناك في مثل مقال في "فاينانشال تايمز"، يؤكد مزاعمهم هذه، وأسكرهم النصر الزائف.

ولهذا، كان لوقع المقال الافتتاحي في أهم صحيفة في الولايات المتحدة الأميركية، وهي "نيويورك تايمز" صدمة، خصوصا أن المقال يعبر عن رأي وموقف أساسي وتأسيسي للصحيفة. لذا، استنفر هذا المقال بعض الذين يقدمون أنفسهم باعتبارهم قرون استشعار مبكرة من أجهزة "المخبرين"، فى شكل خبراء لمنظومة الانقلاب، وفي اطلاعهم على الإعلام الغربي، وبصفة خاصة الأميركي، فاستنفروا استنفاراً، وأطلقوا صافرات إنذارهم، إنذاراً فإنذاراً، يقدمون فيها ما يعدونه نصيحةً، أو خبرةً، أو تقريراً، كأنه يقدم إلى مؤسسات الدولة المعنية بإدارة السياسة الخارجية، فينبه ويدق الأجراس لصورة الانقلاب التي ترسخت في الخارج، باعتبارها صورة سلبية.

فهذا فقيه دستوري يصرخ: ردوا على هذا المقال حتى ولو اشتريتم مكانا في هذه الصحيفة. وآخر يقول، وباعتباره عاش في الولايات المتحدة الأميركية وبعض العواصم الأوروبية، إن الأمر جد خطير، وإن النظام في مصر قد لا يستطيع تسديد الفواتير. وأستاذ جامعي في علوم السياسة لم يجد غضاضة في أن يفرد مساحة مقالته، لتلخيص مقالة صاحبه هذا، مستصرخا وزارة الخارجية وأجهزتها، ومؤكدا على قيمة كلامه في ضرورة الحركة وتسديد الضربات. وها هو أستاذ في الطب تصدر العمل الحزبي، وأدار حزبه الديمقراطي الاجتماعي، يتحدث في المسار نفسه، ويقدم كل ما يبرر ما شارك فيه من أعمال وأحداث، أعقبت الانقلاب، حتى لو تبين للكافة سوء الموقف، وتهافت القرار والخيار.

تواطأ كل هؤلاء وغيرهم من "دكاترة السلطان" الذين لم يكونوا إلا الطبعة المدنية "لفقهاء السلاطين"، يبرّرون ويمرّرون، بل ويزورون تحت عناوين النصيحة والإنذار وضرورات المبادرة بالفعل وبالقرار. بدا هؤلاء يقدمون خدمتهم لمنظومة انقلابية غاصبة كاذبة، تخرج على الناس بمفردات وخطابات زائفة، إذ هالتهم واستنفرتهم ثلاثة أمور: أولها، أن عبد الفتاح السيسي تولى السلطة عقب "انقلاب عسكري"، وجاء بانتخابات مزورة غير نزيهة، ولا تعبر عن إرادة المصريين. ثانيها، زيادة قمع الحريات وعودة مصر إلى طريق الاستبداد، بسجن المعارضين السياسيين، وإسكات المنتقدين، وتشويه الإسلاميين السلميين، وأن قادة جماعة الإخوان المسلمين التي تصفها الصحيفة بأنها "الحركة السياسية القائدة في أعقاب ثورة يناير" يعانون في السجن، "ويصنفون كإرهابيين دون وجه حق". ثالثها أن الصحيفة الأميركية أطلقت دعوة صريحة، مفادها أن على الإدارة الأميركية عدم ربط المساعدات العسكرية بالالتزام باتفاقية السلام مع إسرائيل، بل بالتزامها، أيضاً، بالمسار الديمقراطي الذي من شأنه أن يضمن باقي المسارات، ويعيد البلاد إلى هدوئها واستقرارها. وهو ما أثار جنون الانقلابيين، خصوصاً أنهم الطرف الأضعف في موضوع المساعدات، ويعتبرونها بوابة عبورهم للشرعية الدولية، بمؤشرات لا تقبل الشك أو التشكيك.

إلى هؤلاء "الخبراء المخبرين" من "دكاترة السلطان" الذين يقدمون بإنذاراتهم "ورقة التوت" التي تغطي "عورات الانقلاب"، في شرعيته وسياساته وطغيانه وفساده واستبداده: لا تنسوا أمراً جوهرياً، أكدته ثورة 25 يناير، أن الشعوب حينما تنهض، أو تثور، فهى الرقم الصعب الذي لا يمكن تجاوزه في الثورة والتغيير، في بناء المستقبل وعمليات الفاعلية والتأثير، على قاعدة: من هذا يجب أن نتحرك، وعلى هذا ومعطياته يجب أن نعول، من دون أن نهمل اعتبار فاعلين إقليميين ودوليين، قد تعمق أو تعقد المعركة ومواجهة أصحاب المصالح، الآنية والأنانية، في الداخل والخارج. فالمعركة لا يمكن أن تحسم في ميدان الإعلام، أو الإعلان الخارجي، ولكن تحسم بوعي الشعوب وإرادتها، والاصطفاف في ميادين الاحتجاج، ومقاومة الانقلاب، واستمرار الثورة.

ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".