الشرق والغرب وفلسفة المكان: بين يدي سؤال الاستشراق

26 يوليو 2024

(عبد الرزاق الساحلي)

+ الخط -

كان من الممكن أن نُؤجّل الحديث عن الاستشراق، ولكنّ سؤال الغرب، الذي ارتبط جوهرياً بسؤال النهوض، ارتبط معرفياً وسياسياً بالشرق، كما قلنا، ناظراً ومنظوراً إليه، فما من غربٍ إلّا ويُقابله شرقٌ، وحينما أكّدنا أنّ مفهوم الغرب ليس تعبيراً عن مفهوم مكاني مُغلَق، ولا عن معنى جغرافي مُتعيّن المساحة، فذلك يُنسي، وربما يُتناسى، كلّ ما يتعلّق بمنهج النظر إلى المكان والجغرافيا ضمن خماسية ترتبط بالمكان، وما يُمثّله من عالم الإمكانية والمكنون الذي يسكن المفهوم، والمكان المُفعم بالإمكانية لا يمكن إلّا أن يُرى ضمن عالم "المُكنة". المُكنة هي تحويل الإمكانية إلى قدرة مُؤثّرة. إلّا أنّ ما شاع بين كثيرين ممّن عالجوا قضية الشرق والغرب والمشرق، أنّ تلك مُجرّد تصنيفات جغرافية مُحدّدة ومُحايدة، ولكن اتضح أنّ الغطاء الجغرافي مثل أحد أكثر الإشكالات أهمّية، التي تدور حول الشرق والغرب، والعلاقة فيما بينهما، لم يكن الاختلاف على الجهات الجغرافية يقيناً، ولكن لبّ التحيّز إنّما يكمن في نقطة المركز (مركزية الغرب) وفي الإجابة عن سؤال: الغرب أين؟ والشرق بالنسبة لمن؟... ومن هنا، فإنّ الفهم السليم لهذه الحقيقة المكانية هي الأقرب إلى أن تُعبّر عن تصنيفات لا يكون لها تأثير في تحديد نقطة المركز ومسألة النهوض، كما أنّها تُؤكّد مسألة مُهمّة تتعلّق بجغرافية النهوض استناداً إلى الفكرة التي قالها علي شريعتي؛ "جغرافية الفكرة"، ومعادلة مالك بن نبي بشأن أفكار مثل "القابلية" و"الصحّة" و"الصلاحية" و"مشكلة الفاعلية".
من هنا، فإنّ الجغرافيا الجامدة الساكنة، المُقفَلة والمُغلَقة، هي من ناحية الوجود جغرافيا ميّتة في الحضور وفي الأثر. الأمر لم يعد في المكان الجغرافي المُحدّد بخطوط طول وعرض، ولكن المقام في الفهم والتصوّر، وإدراك الرسالة والدور، واتخاذ المواقف الاستراتيجية بصراً وبصيرةً، لطرق أبواب الفعل والتفعيل والفاعلية كلّها. حينما نتحدّث عن "فلسفة المكان"، أو إن شئت الاستعارة "روح المكان"، الذي يتقاطع فيه؛ المكان بمحتوياته؛ والروح بفيوضاتها؛ والثقافة بمعطياتها؛ إنّها روح المكان كما عبّر عنها جمال حمدان، فجعل للجغرافيا شأناً آخر، وللمكان فلسفة وروحاً تسكنه. لم تكن الجغرافيا همّ حمدان الوحيد، لكنّه أراد أن يجعل منها مركزاً لكلّ العلوم، فكان لكلّ وادٍ عنده نظرية، ولكلّ بحر دلالة وأهمية، ليصوغ من خلال ذلك نظرية إستراتيجية كاملة في عبقرية المكان، ويُحلّل من خلال تلك النظرية التاريخ والحاضر والمستقبل، بل وينسف بكلّ ثقة ويقين ادّعاءات الكيان الصهيوني بأحقيته المزعومة في أراضي ومُقدّسات فلسطين، وكذا يستشرف مُبكّراً باقتدار مآلات وإحتمالات الصدام والتصدّع المُبكّر بين القوى العالمية المهيمنة على إدارة البيئة الدولية حينها، ولكن قبل حدوثها بسنوات.

كم من جغرافيا قد يقيم أهلها فيها إلّا أنّهم لا يتعرفّون إلى أسرار المكان وعبقرياته أو يهملون ذلك أو يتغافلون عنه

كما أنّه يُؤصّل معاني تصوّره؛ تصوّر المكان وإدراكاته، في حال حركة الحياة والزمان، هي التي تؤصّل معاني الوسط المحيط والذاكرة والروح، والفكرة والحركة والخبرة، والمعنى والمغزى. إنّها فلسفة المكان، سؤال المكان المُتفجّر بالمياه من بين ثنيّات حركة التاريخ، وتبصّر علاقات الشرق بالغرب. يلقي حمدان علينا دروسه الواعية لتأسيس الوعي، والداعية إلى رشيد السعي. كم من جغرافيا قد يقيم أهلها فيها ويسكنونها إلّا أنّهم لا يتعرّفون إلى أسرار المكان وعبقرياته أو يهملون ذلك أو يتغافلون عنه، ومن ثمّ يفشلون في تحويله مُكنةً، ويُخفِقون في التعامل خارج المكان المخصوص والمُتعيّن ليتحوّل مجالاً حيوياً أكثر اتّساعاً وأبعد أفقاً، فتدخل على الجغرافيا السياسةُ، والثقافةُ، الاجتماعُ والإدارةُ. إنّ علم القدرات هو في استثمار المكان والتعرّف إلى مُعطياته وقُدراته، والقدرة هي استثمار الإمكانية، أكبر استثمار ممكن، فلا يتغافلون عنها ولا يهدرون أصولها، فيحولون المكان عمراناً بالمفهوم الخلدوني الواسع عن عمران المكان، وعمران الإنسان، وعمران الكيان والأوطان، بل عمران الأكوان، بل إنّ نقص الإمكانية في عالم النهوض لم يكن ليقف في سبيل قيام الجغرافيا وقاطنيها بالتغلّب على قصور عالم الإمكانية فيها، إنّها الإرادة والإدراك والسياسات، التي لا تشكّل المكان فقط بإمكاناته من جديد، بل تصنع الإمكانية ذاتها، فتحوّلها مُكنةً وقدرةً. إنّ نموذج النهضة اليابانية، مهما اختلفنا عليه، يُشكّل بادرةً مُهمّة في صفحات التاريخ، حالةَ جغرافيا في عالم الإمكانية وتحدّي البيئة.
ومن عالم الجغرافيا المُفعَمة بالسياسات الناهضة، والفاعليات الاستراتيجية الرافعة، تتحوّل الإمكانات مُكنةً، والمُكنةُ مَكانةً، وهذا هو بيت القصيد، الانتقال من عالم القدرة والمُكنة إلى عالم المرتبة والمكانة، وهو بذلك لا يرتبط بمكانة رمزية أو إسميّة، بل الأمر أكبر لتحديد المكانة وقياس أبعادها الجيوستراتيجية، والثقافية، والحضارية، ورؤية العالم والسياسات الكونية.

نموذج النهضة اليابانية، مهما اختلفنا عليه، يُشكّل بادرةً مُهمّة حالةَ جغرافيا في عالم الإمكانية وتحدّي البيئة
 

المكانة حالة ظاهرة ومكنون ثقافي وقيمي، وممارسة ما يسمّى بفنّ الإمكان والممكن، لتعظيم المكانة والمحافظة عليها والاستمرارية والاستدامة من حفظ ابتداء إلى حفظ بقاء. إنّ حال التدافع بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب، صار أحد قوانين الانتظام السنني الحاكم للعلاقة، وهو في واقع الأمر تدافع طويل المدى وتنوّع في العلاقات وموازينها، وتغيّر في المكانة وحال التمكين.
النظر إلى المكان (جغرافيا) مصمتة مقفلة ومغلقة، نظر عليل وكليل، وهو لا يتحرّك في جغرافيا فارغة، ولكنّها مسكونة بـ"الديموغرافيا ـ البشر والإرادة"، والجيولوجيا وعالم الإمكانية، والاستراتيجية وعالم التدبّر والتدبير، والوعي الحضاري والفاعلية والتأثير، وعالم البيولوجيا المُتعلّق بالحالة الشبابية الناهضة. إنّ الخروج من حال التصوّر المكاني موضعاً غير النظر إلى المكان باعتباره موقعاً، تتراكم فيه وعي التصوّرات، وتُترجَم في عالم السياسات والتصرّفات والاستراتيجيات. المكان بهذا الاعتبار وعاء مكاني لا يهمل ذاكرته، ولا يهمل تلك الأمور كلّها، التي تتعلّق به، ولا يهمل محيطه أو علاقاته الدافقة والمُعقّدة، تدبّر المكان ضمن حدوده الجغرافية، وتدبير أمر المحيط وما يفرضه من علاقات في المجال الحيوي عبر المكان وطبقات الذاكرة والتاريخ والزمان، الفارق بين الجغرافيا الحيّة، والجغرافيا المصمتة المقفلة وربّما الميّتة. يبوح المكان بأسراره عند الحركة فيه أو منه، الحركة في المكان، والهجرة من المكان، والهجرة في المكان، عالم الرحلة شكلّ نظراً مبدعاً للمكان في حال الارتحال، لا يمكننا إغفاله أو إهماله، ارتحال الإنسان مستصحباً المكان الذي سكن فيه، إلى مكان آخر يستشرفه ويحاول معرفته.
قد يعتب علينا بعضهم لأنّنا نحونا في هذا المقال منحىً فلسفياً بشأن المكان، ولكن في حقيقة الأمر لم نبتغِ ذلك لأغراض التفلسف، بل هو أمر يتعلّق بالتصوّرات والسياسات والمواقف حيال العلاقة بين شرق وغرب، وهذا التصوّر شكّل الاستشراق أحد تجلياته، وشكّل الاستغراب أحد ردود فعله؛ وشكلّ سؤال النهوض مَقصده. ومن عمق رؤية فلسفة المكان كما وجّه حمدان، فنحن أمام خمسة أمور مُهمّة. الأول، أنّ الغرب ليس مكاناً أو جغرافيا مصمتة، وأنّ الشرق ليس في المقابل مكاناً مغلقاً أو مقفلاً. الثاني أنّ الغرب مثّل مفهوماً معرفياً وثقافياً وحضارياً، وكذا الشرق في تصوّراته لا يخرج عن تلك الدوائر المعرفية والثقافية والحضارية. الأمر الثالث، أنّ مقولة الشاعر الإنكليزي كبلينغ "الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا أبداً" كذّبتها وقائع التاريخ. فالاقتران الجغرافي والتاريخي بين تفاعل المكان والزمان، والتاريخ والجغرافيا، والذاكرة المُتعلّقة بهما، أكّدته العلاقات وامتدادها وتنوّعها، فالتفاعل والتبادل ضرورة حضارية وثقافية. كما أنّ هذه المقولة "الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا أبداً"، مقولة صحيحة لأنّها تنتمي إلى العصر الاستعماري الذي كرّس التمييز العنصري والتفرقة. أما الأمر الرابع فهو أنّ للغرب وجوهاً كثيرة، كما للشرق ذات الوجوه، تتحرك ضمن دوائر المشترك والمختلف، والعام والخاص. والخامس، أن تصورات المكان شكّلت في حضارة الغرب رؤيةً للعالم فاضت عن مركزيته، وإحكام قوته وسيطرته، إلى الحدّ الذي عدّ فيها آليات العدوان، بدعوى الإعمار أو أنّ تلك الأرض لا صاحب لها ومكان لا يؤبه للبشر فيه، عدّها مكاناً لـ"الكشوف الجغرافية" ولـ"الحقبة الكولونيالية".
هذه مقدّمات ضرورية بين يدي سؤال الاستشراق، والفهم الواسع لروح المكان.

ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".