30 نوفمبر 2015
حين زال تمثال الطاغية من السويداء
في كل مرةٍ كنت أعبر فيها الساحة الكبيرة وسط مدينة السويداء، كان الشعور بالضيق يسيطر عليّ، فحافظ الأسد بتمثاله الذي يرتفع عن الأرض بشكل مبالغ به، وكأنه يدوس على كل السوريين، يتوسّط المكان، رافعاً يده في حركة غير مفهومة. كان أهالي السويداء يتندّرون سرّاً بمعناها، وخصوصاً أن محلاً للشاورما يقع مقابلها، ومن النكات أنه كان ينادي لصاحب المحل، ويطلب خمسة شاورما.
كانت يد التمثال الممدودة مع طول التمثال تعني لي أن هذا النظام سيحكم ويسجن ويسيطر. كانت اليد تهدد المارة بسحقهم في أي لحظة، وظلال التمثال المتنقلة في كل الاتجاهات، بحسب انعكاس الشمس، تقول: إنني وراءكم، ولن تتمكنوا يوماً من أن تهربوا مني.
في الثمانينات، وحين عصفت بسورية أزمة اقتصادية خانقة، مع سياسة الأسد الأب الممعنة في تفقير الشعب السوري، كان السوريون يضطرون لشراء السمن والسكر والمحارم عبر بطاقات التموين، وبأعداد محدودة، بحيث تكون الحصة مرتبطة بعدد أفراد الأسرة. لم أكن قد بلغت الثانية عشرة، حين كنت أحاول تخطّي حشود كبار وصغار ساعين إلى حيث المختار، ليختم لي الدفتر، فأحصل على علبة السمن.
كانت مرحلة القمع الأقذر في عهد حافظ الأسد. ومع هذا، أفاقت السويداء يوماً، لترى أن يدالتمثال تحمل علبة سمن فارغة، أي أن مجنوناً ما تجرّأ على تسلّق التمثال، ووضع على يده علبة سمن فارغة في الليل، ما أثار ذعر رجال الأمن، وسبّب سعاراً في بحثهم عن الفاعل.
في الساحة، كانت سيارات الأمن تتوقف في زاوية معروفة لكل أهالي المحافظة، لا لحماية المواطنين، بل لحماية تمثال حافظ الأسد الذي كان تعبيراً عن دوس النظام على السوريين، وإقراراً بسلطته على المكان. وكان التمثال أيضاً الخوف المكرّس في دواخل السوريين الذين ما أن ثاروا حتى بدأوا تحطيم التماثيل، في إشارة لا شعورية إلى الخلاص من رعب كبير، وبحيث كان الانتقام المباشر من حافظ الأسد بعد الثورة تحطيم كل ما يذكّر به ويرمز إليه. وأذكر ارتجاف قلبي وانفعالي، مع اقتلاع تمثال الأسد في درعا، في بداية ثورة الكرامة، وكانت لحظة تاريخية لن تزول من ذاكرة كل من شاهدها.
وفي ساحة صغيرة في حي الثعلة في السويداء، كان تمثال صغير مجسّد برأس حافظ الأسد يتوسّطها، حيث كانت سياسة تعميم صوره وتماثيله ونشرها في كل مكان، حتى على كراسات المدراس وشهادات نهاية العام، كان هذا كله مقصوداً من أجل أن لا يتسنّى لنا لحظة، نحن الشعب، أن ننساه، أو أن يغيب عن أعيننا أن رعباً يلاحقنا ويحكمنا، حتى بعد أن مات. حرق شباب السويداء الثائر التمثال الصغير ثلاث مرات في يومين متتالين، في حراكهم السلمي في أثناء ثورة الكرامة، فاضطر النظام لإزالته مرغماً، كما تم حرق صور لبشار الأسد في أماكن كثيرة من المدينة، غير أن بقاء تمثال حافظ الأسد يتوسط الساحة الكبيرة وسط السويداء ظل تنغيصاً دائماً لأبناء المدينة المعارضين، وحتى الوسطيين منهم.
لم يحتمل عصام العشعوش (من أبناء السويداء)، هذا الكابوس أكثر من ذلك، ففي منتصف النهار وأمام كل الناس، حمل مطرقته، وتوجّه إلى التمثال، وحاول تحطيمه، ورجال أمن يحاولون سحبه ومنعه، إلى أن تمكّنوا من اعتقاله. فشلت محاولته، وبقي التمثال الذي لم نعلم أن إزالته قادمة، وأن أبناء السويداء سيحطمونه، ويدوسون ويبصقون عليه، ويجرّونه إلى الحاوية. لم نتخيّل أن هذه اللحظة قادمة، وجاء ثمنها باهظاً، وتسبّب بها النظام نفسه، في اغتياله المجرم ثلّة من مشايخ الكرامة، وفي مقدمتهم وحيد البلعوس، الذي عُدَّ حالةً من التحدي للنظام ومن الاستقطاب أيضاً لأبناء المحافظة من كل التوجهات السياسية.
التفجير الذي ارتكبه النظام، فأودى بعشراتٍ من أبناء السويداء، دفع مئاتٍ إلى التوجه نحو التمثال واقتلاعه. ولم تكن رؤية التمثال مرمياً على الأرض وحدها ما أسعدني، بل أيضاً يده المكسورة التي كانت دائماً تهدّد السوريين، وتوحي بالفوقيّة والحكم الأبدي، وهذا يعني، في مفارقة طريفة، أن المطعم المقابل للتمثال فقد زبوناً دائم الطلب.