في مطبخ جدتي صحن خشبيّ مجوّف صغير لجمع حبّات الصنوبر الخشبية الصغيرة، تلك التي يلتقطها جدّي في طريقه من باب الأسباط إلى "المُصلّى القِبلي" حيث تتواجد الصنوبرات على جانبي الطريق.
تتساقط الحبّات في أيام الصيف مع هبوب ريح بعد الظهيرة، ولها - بعد أن "تطقّش" غلافها الخشبي بحذر شديد حتى لا تتفتّت الحبّة الداخلية - نكهة تأخذك إلى زمن خياليّ، تمنحك شيئاً أشبه بالنشوة، كأنّك تتذوّق الشمس والهواء والأرض.
تتوزّع الأشجار على مساحات واسعة في ساحات المسجد التي تبلغ حوالى 144,000 متر مربع، ويختلف تنوّعها بحسب منطقة تواجدها.
تأتي أشجار الزيتون في المرتبة الأولى من حيث الانتشار، سواء الزيتون الروماني الذي يفوق عمر بعضه اسبعة قرون، إضافة لزيتون "الزرع الجديد" في مناطق مختلفة وخاصّة في المنطقة الشمالية الشرقية، ثم تأتي الصنوبرات والأشجار المُعمّرة من المَيس والسرو وغيرها، والتي تتراوح أعمارها بين 60 و300 عام.
تتوزع هذه الأشجار الكبيرة بانتظام على الطرقات، وتلقي بظلالها على المصاطب والأسبلة والساحات، إضافة لبعض الورود والياسمين والريحان وغيرها.
خلال السنوات العشر الأخيرة، وقع عدد ملحوظ من هذه الأشجار بفعل عوامل كثيرة. ذكرت بعض التقارير والترجيحات أنها بسبب الحفريّات التي ينفذها الاحتلال تحت المسجد، وهو ما استبعده مدير لجنة الإعمار العمّ أبو خليل (المهندس بسام الحلّاق)، والمشتغل في عمليات الترميم منذ 36 عاماً.
عند حديثنا معه، أفادنا بأن "طبيعة الأرض تحت المسجد الأقصى في غالبيّتها صخرية، ولا يمكن الحفر فيها دون أن ينتج صوتاً"، وهو ما لم يلحظه أو يُبلِّغ عنه أحد الحراس أو العاملين في المسجد. ويستذكر العم أبو خليل، مثلاً، الأصوات التي نتجت عام 1984 حين حاولت سلطات الاحتلال الحفر من الجهة الغربية للمسجد الأقصى، وتحديداً أسفل سبيل قاتباي (مستغلين المساحة التي أوجدت للسبيل) في محاولتهم للوصول أسفل قبة الصخرة.
الحفريات في محيط المسجد موجودة والعمل فيها مستمر منذ عقود، وكل ما سبق لا ينفي وجود حفريات تحت المسجد نفسه باستخدام مواد كيماوية على سبيل المثال، إلا أن ذلك يحتاج إلى تحقيق موسّع.
عودةً إلى الأشجار، فقد خلَّف ويخلِّف تساقطها فراغاً مخيفاً مؤلماً في روح المسجد ونفوس مريديه من البشر والطير. ثمّة بعض الأشجار التي سقطت كان يسكنها أكثر من مائتي طائر، كالسروة الأولى المقابلة للمسجد القبلي على سبيل المثال لا الحصر. أمّا عن أسباب تساقطها، فتعود في الغالب حسب بسام الحلّاق إلى عوامل طبيعية كتقدمها في العُمر، أو عدم استقامة بعضها، وكذلك للعواصف والثلوج وغيرها.
غير أن ما يفاقم الأمر هو منع سلطات الاحتلال زراعة أو إدخال أي شتلة لساحات المسجد منذ سنوات. وتُفرض غرامات مشطّة وعقوبة بالسجن على جيران المسجد لو حاولوا تهريب شجرة، كما تقتلع أي شتلات جديدة تتم تنشئتها خفية داخل المسجد من الأشجار الموجودة.
ولا بدّ من الإشارة أيضاً، أن الاحتلال يمنع أي عملية حفر في المسجد الأقصى سواءً كان ذلك لزراعة شتلة أو لأعمال الترميم في البنية التحتية، كما يوضّح لنا أبو خليل، ويتابع إن "لليهود معتقداً دينياً يمنع الحفر لأي سبب في المكان".
وعن آخر المحاولات لزرع أشجار جديدة، يقول محدّثنا إنها "كانت عند زيارة رئيس حكومة السلطة الفلسطينية رامي الحمدالله" في خريف 2014. وقتها أُحضرت ثلاثون شجرة زيتون طول الواحدة منها متر تقريباً، إلا أنه يعقّب: "مُنعنا من إدخالها، فوضعناها عند قبور الشهداء خارج باب الأسباط، وعدنا في اليوم التالي ولم نجدها".
للأسف، لا نسمع بمثل هذه التفاصيل في الإعلام المهلل لـ"السلطتين" الفلسطينيّتين أو "الأوقاف الأردنية" التي يُفترض أن يكون المسجد الأقصى وغيره من الأوقاف الإسلامية في القدس تحت حمايتها و"سيادتها".
ماذا لو استمر الأمر على هذه الحال خلال السنوات القليلة القادمة؟ حين تسقط الأشجار، ولا يأتي من يُكمل مشوارها. كيف تكون الطريق الشرقية من باب الأسباط إلى المسجد القبلي؟ الطريق الأخيرة التي اعتاد غالبية سكان القدس من المسلمين أن يسلكوها مودّعين ذكرياتهم، وسماء مدينتهم، وأشجارهم وأعشاشها في خمس دقائق تُقطع بها الطريق سريعاً.
(القدس القديمة)