حين تثير الجزائر رعب أوروبا... تحقيق صحافي بخلفيات سياسية

28 فبراير 2016
يستعرض الصحافي نتائج الصراع بين بوتفليقة والجنرال توفيق (Getty)
+ الخط -
من يقرأ مقال الصحافي، تييري أوبرلي في صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية، الثلاثاء الفائت، يندهش من الطابع اليقيني للمقال، على اعتبار أن الجزائر، الحالية، تخيف أوروبا، فعلاً.

ولكن قراءة هادئة تكشف أن العنوان المخيف لا يتوافق مع نص المقال، اللهم إلّا حين يستشهد بصحافي جزائري، لا يخفي انتقاده الشديد للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وهو يُحذر من أنه في حالة نفاد ثروات الجزائر سيَحدُثُ "إفلاس سيولّد الفوضى ويدفع الجزائريين إلى الهرب إلى أوروبا. وإذن فالخوف، هنا، هو ربما من مواجهة أوروبا لمهاجرين من الجزائر، بعد أن شهدت تدفقاً للاجئين السوريين".

يستعرض الصحافي حُلُم الرئيس، والذي يُكلّف الخزينة الجزائرية 4 مليارات يورو، وينظر إلى الأمر باعتباره نوعاً من الحرب بين المغرب والجزائر حول من يمتلك أكبر مسجد وأعلى مئذنة.  

بالطبع يحاول صحافي "لوفيغارو"، اليمينية، أن يكون محايداً، ولكن قائمة الصحافيين والكُتّاب الذين يستشهد بهم في مقاله تكشف نواياه.

فحين يتحدث عن سنوات بوتفليقة؛ أي مرحلة إعادة البلد إلى السكّة بعد حرب أهلية طاحنة، يكتب أن "خاتمة عهده ترافقت مع زلزال حقيقي يضرب الاقتصاد الجزائري، بسبب انهيار العائدات النفطية".

ويضيف أن البلد يوجد في أوج الأزمة: "لا يخفى أن تأثير انخفاض ثمن النفط بدأ يظهر في البلد، كما أن العملة الوطنية تترنح، والتضخم يقفز، كما أن الاحتياطات المالية تذوب".

اقرأ أيضاً: بوتفليقة يتجنّب صدام الموالاة بالتمسّك بالحكومة

ويرى الصحافي الفرنسي أن المساعدات تضاعفت سنة 2011، من أجل وأد الانتفاضات المتفرقة والتظاهرات، والتي انطلقت مع بداية الربيع العربي، في مهدها. ثم يتأسف لأن المسؤولين الجزائريين لم يُطوّروا، أثناء سنوات الترف، النسبي، طرقاً بديلة للاعتماد شبه الكلي على النفط، ولا فكروا في تغيير العقليات.

وهنا يستشهد بالصحافي والكاتب الجزائري كمال داود، المعروف بكراهيته الشديدة لنظام الحكم في بلده، وبمقالاته العنيفة ضد كل ما هو عربي ومسلم، مثل اعتباره أن غزة المحاصرة والشهيدة لا تهمه، وكذلك سخريتهُ من حوادث كولونيا واعتباره أن الرجل العربي مريض، جنسياً، وهو ما دفع أكاديميين فرنسيين مرموقين لنشر بيان يتهمه بالإسلاموفوبيا.

وينقل أوبرلي، عن داود، أن "الريع ساهم في خلق وضعية غريبة. وضعية من ليس لهم سوى الحقّ في تلقي المساعدة، مقابل التخلي عن أكبر قدر من الحقوق، كمواطنين جزائريين".

ثم يستعين الصحافي الفرنسي بصحافي جزائري آخر، مدير سابق لصحيفة "لوماتان"، محمد بنشيكو، والذي لا يخفي معارضته الشديدة للنظام الجزائري، حين يكتب: "حاول بوتفليقة رشوة المجتمع عبر توزيع عائدات وكبح المبادرات وجذب إليه مافيات، تسللت إلى دوائر السلطة، وتمثل، الآن، أسياد البلد. وإن مشكلة هذا النظام المتجاوَز والسقيم هي عجزه عن الإصلاح والدمقرطة وإرساء حَوْكَمَة جديدة".

ويتابع الصحافي الفرنسي استشهاده ببنشيكو، معتبراً أنه في حالة إذا ما نفدت الثروات الوطنية: فإن "الإفلاس سيولّد الفوضى ويدفع الجزائريين إلى الهرب إلى أوروبا".

كما يستند إلى حديث الخبير بيير فيرميرين، حول ابتعاد الجزائريين عن التسيّس، عبر موقفهم من الانتخابات، حيث إنّ "الفائز الأكبر هو الامتناع عن التصويت، أي أن المجتمع يبدو وكأنه انشق عن السياسة، وأن مخاطر هذا التحول تكمُنُ في أننا سنشهد، في حال حدوث أزمة خطيرة، ظهورَ الفوضى والتفكك المجتمعي".

ويضيف بيير فيرمرين: "المسؤولون السياسيون هم تقنيون أو موظفون إداريون. وبوتفليقة آخرُ الخطباء المفوهين. وهو لا يتعرض لانتقاد حقيقي، ولكن يُنظَر إليه بحزن. وهو ليس من يستطيع أن يُخاطِبَ الأمّةَ إذا ما ساءت الأمور".

اقرأ أيضاً: "دستور بوتفليقة" يُبصر النور الأربعاء: معارضة أقلية

بعد 16 سنة من حكم بوتفليقة، والذي يعاني من مرض عضال، والذي عولج في باريس قبل عشر سنوات، لا تزال الصحف تعترف، كما يقول الصحافي الفرنسي، بأن "الرئيس في كامل قواه العقلية. يجلس على كرسي متنقل ويدير البلد من مقر إقامته الطبية".

ويستعرض الصحافي الفرنسي نتائج ما يقول إنه كان صراعاً بين الرئيس بوتفليقة والجنرال توفيق، والذي ساد، خلال 20 سنة، على جهاز الاستخبارات، العمود الفقري للنظام. وقد انتهى هذا الصراع بحلّ الرئيس لهذا الجهاز في شهر يناير/ كانون الأول الأخير، وإلحاقه بالرئاسة.

ويرى الصحافي أن بوتفليقة "بعد أن تخلص من منافسه، ولم يُعيّن خليفةيستطيع أن يتأمل بلدا جامدا، بلداً على صورته، هشّاً، وبمستقبل غامض، ولكن حيث ترتفع أعلى صوامع العالَم".

من يقرأ توقيت المقال، لا بُدّ أن يتساءل عن الرسائل الغامضة التي يتضمنها، وإلا فإنه سيبدو سطحياً واستعارة لأفكار ومعلومات توردها الصحافة الجزائرية، والتي تستطيع انتقاد الرئيس، خلافاً لما يزعم كمال داود، والذي أصبح معارضاً من باريس.

صحيفة "لوفيغارو"، اليمينية، يترأسها سيرج داسو، صانع طائرات "الميراج" و"الرافال". وبفضل الرئيس فرانسوا هولاند ووزير دفاعه ايف لودريان جرت المساهمة في تسويق الطائرة في بلدان عديدة، لكن الجزائر، السوق التي تثير لُعاب بائعي الأسلحة، ترفض شراء الطائرات الحربية الفرنسية، مفضلة الطائرات الروسية، وهو ما يثير حنق الساسة الفرنسيين، وأيضاً السيد داسو، صاحب "لوفيغارو".

بعد أكثر من خمسين سنة على استقلال الجزائر، لا تزال العلاقات متوترة، بسبب رفض فرنسا الاعتراف بمسؤوليتها التاريخية في هذا البلد، وهي علاقات ساءت قبل سنوات حين صوّت البرلمان الفرنسي في أغلبيته اليمينية على قانون "يمجّد دور الاستعمار الإيجابي".

يربط كثيرون بين توقيت ما يعتبرونه حملة تعبر عنها مقالات وتحقيقات من نوع ما نشرته "لوفيغارو" من جهة، والموقف الجزائري الرافض للتدخل العسكري الخارجي في ليبيا من جهة ثانية.

اقرأ أيضاً: حل جهاز المخابرات الجزائرية واستبداله بثلاثة أجهزة

فالجزائر تحاول بتشى السبل التخفيف من حماسة فرنسا والسلطات المصرية في محاولتهما التدخل العسكري في ليبيا، مفضلة المفاوضات بين الأطراف الليبية، وهو ما يعيق، نسبياً، المصالح الفرنسية، ويربكها.

وستكون فرنسا سعيدة إذا ما انغمست الجزائر في المستنقع الليبي، وهو ما لن يحدث في ظل حكم بوتفليقة على ما يبدو.

هل كتب المقال للضغط على الجزائر لدفعها للتدخل في ليبيا؟ أغلب الظن أن كل هذه الاعتبارات كانت حاضرة في ذهن الصحافي الفرنسي، المقرب كثيراً من الدوائر الأمنية التي يمكن تلمسها في كتابه عن كواليس الحرب الفرنسية الخاطفة في مالي، بعنوان "حربنا السرية في مالي، التهديدات الجديدة ضد فرنسا"، سنة 2013.

وإذا كان مقال أوبرلي يكشف عن روح تشاؤمية، فإن كاتباً جزائرياً آخر، بوعلام صنصال، يدخل على الخط، في نفس الصحيفة ونفس الملف، ويُضيف مستويات أخرى من التشاؤم.

وليس غريباً تلمّس هذه القراءة عند صنصال، والذي اكتشفه الغرب، حين تحدّث، في إحدى رواياته، عن قرية نازية في الجزائر (قرية الألماني)، تنتشر فيها معاداة السامية، وحين انتقد تاريخ حركة التحرير الجزائرية، فأصبح مفكراً سياسياً في دار "غاليمار".

وليس الأمر غريباً، أيضاً، على صنصال الذي يرى الخطرَ الإسلاموي في كل مكان، والذي لا تعني له القضية الفلسطينية شيئاً، لدرجة أن ألان فينكلكروت، عضو الأكاديمية الفرنسية الجديد، يتحدث عنه، باستمرار، بتقريظ لافت.

كذلك، تجرأ هذا الكاتب على القول، دون أن يحسب حساباً لثقل الكلمة، إن "السيناريو السوريّ ممكنٌ في الجزائر".

اقرأ أيضاً: ليبيا:السراج يبحث عن الشرعية بالجزائر بعد خسارة ثقة طبرق