حينما يموت ضمير الإنسانية

23 ديسمبر 2016
+ الخط -
يبدو في إطار تلك الأحداث المفجعة، وتلك المآسي المتراكمة، التي تطاول كثيراً من مدننا وحواضرنا، أنها تحمل شواهد تؤكد أن عالمنا العربي لا يزال يتحرّك في سياق عقلية الوهن التي تتمكّن من مواقفه وفعله، وكذا أن المنطقة في سياق حالة التداعي على القصعة، بما يؤكد حالة الوهن العربي، بكل أشكاله وإشكاله. نقول ذلك بمناسبة ما يحدث في حلب، وبمناسبة المواقف المتخاذلة من كل الحكام العرب، حيال تلك القضية. صرنا مسرحاً لمشاهد مفجعة تتفرّج عليه الدنيا، وتخرج بصدده القرارات تلو القرارات، وتحدث بشأنه التوافقات في ظل غياب عربي مهين. الشاهد أن من يحدّد مصير هذه المدن هو من غير أهلها، ومن دول كبرى اجتمعت في المكان، وتواطأت على ما يحدث من قتل وتهجير. حينما نؤكد ذلك، فإننا نشير إلى قراراتٍ واتفاقاتٍ تصفق لها الدنيا، مفتخرين بأنهم يحمون إنسان حلب، ولكنهم، وهم يفتخرون بذلك، يتناسون المأساة الكبرى أنهم اتفقوا على إجلاء أهل حلب منها، وترحيلهم من بيوتهم، ومن أرضٍ عاشوا عليها، والكل في ذلك يهتف، على الرغم من تلك الحالة الإنسانية التي تتطلب قيام مطالبات بمراقبين دوليين لمراقبة عمليات الإجلاء.
نعم عمليات الإجلاء، المؤسف حقاً أن يقتلعوا أهل هذه البلاد من أرضهم، ويتم تخييرهم وفي الحقيقة إكراههم، إما القتل أو الهروب بكيانه وحياته، هذه هي القضية، حينما يموت ضمير العرب والإنسانية، لا نستطيع أن نؤكد أن يكون هذا المشهد الحلبي هو الأخير في سلسلة المآسي. ولكن قد يكون ضمن مشاهد افتتاح مفجعة في سلسلة كوارث ومآسٍ قادمة، لا نقول ذلك تشاؤماً، ولكن نقول إن أحوال الإنسانية واعتباراتها صارت في الحضيض، وأن احترام حقوق الإنسان في حماية الكيان، وفي تأمين الأوطان، أمر صار بعيد المنال. ووصل الأمر إلى أن من يسبّب المشكلة، ويصطنع الأزمة، هو من بيده القرار ومن بيده الاتفاق، كل شيء يتم بتواطؤ عجيب، تهجير وإجلاء وتغيير ديموغرافي سكاني وإبادات جماعية، ثم بعد ذلك يقولون إن حلب في أزمة إنسانية، ويتناسون أمراً أساسياً أن من صنع أزمات حلب هو الموكل بحلها، وحولها إلى حالةٍ إنسانية. عجيب أمر الإنسانية وحقوق إنسانها، غريبٌ أن يتداعى هؤلاء ليتحدثوا عن ضرورة معالجة الأوضاع الإنسانية في حلب، في كل ما يتعلق بالحصار وعمليات الإجلاء والسماح لهم بالرحيل.
كنا دائما نشير إلى أزمة القيم في العلاقات الدولية، وأن النمط الذي يقوم به المجتمع الدولي في معالجة مثل هذه القضايا بإحداث أزماتها وتعظيمها، حتى تتحول إلى أزماتٍ إنسانية، ثم يتدخل
المجتمع الدولي للبحث عن حل بالتهجير، أو بالحديث عن تعميرٍ بعد تدمير، لم يسأل هؤلاء من دمر ومن حاصر، ومن اصطنع الأزمة الإنسانية، ولم يحاسب هؤلاء، بل دخل الأمر في باب المناشدات والنداءات والتواطؤ والإجلاءات. يذكرني ذلك بكل مرة يقوم فيها الكيان الصهيوني بحرب تدمير على غزة، يدعو العالم بعد ذلك لمؤتمر للتعمير، ويتحرّك من دمر بفرض شروطه وبعرقلة أية عمليات تعمير. ألا يخجل هذا المجتمع الدولي، حينما يترك من يقوم بالتدمير ثم ينادي بعد ذلك بالتعمير، ثم يعوق البلطجي الذي دمر عمليات التعمير، ويظل الخراب على حاله، وتظل تلك الطريقة التي يتعامل بها المجتمع الدولي يحول جريمةً تمسّ الإنسانية في الصميم إلى حالة إنسانية؟
كرهنا أن تتحوّل مآسينا إلى حالاتٍ إنسانية، كرهنا أن يتلاعب هؤلاء بأقدارنا وأرضنا وأهلنا، كرهنا لعبة التدمير والتعمير، ولعبة الإجلاء واللجوء والتهجير، أصبح ذلك ضمن سلسلةٍ من المآسي، وفي إطار عملياتٍ لفكّ المنطقة وتركيبها بلا رحمة، وكأن هؤلاء يعودون، مرة أخرى، إلى المنهج نفسه في التعامل مع تلك الأرض، وكأنها "أرضٌ لا صاحب لها"، ليس فيها من بشر، أو لا يهم من فيها من بشر، شعار المستعمر الأثير الذي يتعامل مع الأرض وأهلها كعالم أشياء، ويتعامل مع البشر كأنهم لا شيء، لا ينظر هؤلاء إلا لتحقيق مصالحهم، مهما كان ذلك على حساب البشر، أو تقطيعٍ للأماكن والمناطق التي أرادوا لها تفريغاً سكانياً على أعينهم وبلا مواربة، بلا خجل وبلا ضمير.
إنها الظاهرة الاستعمارية تعود بكل طرائقها، تحايلاتها ومحاولاتها، وبكل توافقاتها وتواطئها، وفي حال من تنازع المصالح لا يأبه هؤلاء أن يكون ذلك على حساب بشر، فإن أرادوا أو اتفقوا، ألا يوجد بشر في هذا المكان هجروا أهله وأجلوهم، لأنهم قرّروا واتفقوا على ذلك، وبعد ذلك يغطون هذا الأمر كله بحالةٍ إنسانية؟ يا هؤلاء، يلعنكم الإنسان في أرضٍ صرتم لا تعتبرون فيها بقيمة الإنسان وحرمته، يلعنكم كل من وجد في أرض وطنه، آنس في بيته، وتواطأتم على تدمير معاشه وحياته، ثم بعد ذلك تمنّون عليه، وتتفضلون بتهجيره حتى ينفد بجلده. هذه هي القضية الأساسية، قضية انعدام ضمير الإنسانية وموتها في ثوبٍ يتعلق بالتعامل مع حالةٍ إنسانية، وهم متواطئون بعملهم، زائفون في توافقاتهم، ظالمون لكل أمر يتعلق بحقوق إنساننا وهضمها ونقضها بتوافقاتهم وبمعرفتهم، تدمير شعبٍ بأكمله حالة قد تغتفر، تهجير شعب برمته أمر بتوافقاتهم معتبر، وبعد ذلك يصطنعون حالة إنسانية.
في كل مرةٍ، نذهب إلى مجلس الأمن، ويأتي "الفيتو" من هنا ومن هناك، والناس تقتل، حلب
تباد، شعبها يهجر، هذا أقصى ما يقدّمه هؤلاء للإنسان وحقوق الإنسان، ثم هم بعد ذلك ينعمون ويريدون أن يعيشوا في بلادهم آمنين. لا نحرّض على أي أمرٍ يختط مسار العنف والقتل، فالعالم ليس بحاجة إلى مزيدٍ من تقتيل أو تهجير، فقط نقول إن على هؤلاء أن يبحثوا عن حل صحيح، لا بإحداث مرارة إنسانٍ يتحمل فوق طاقته، يمتلئ وجدانه بالامتهان، ويمتلئ قلبه بكل أشكال الانتقام. يا هؤلاء، أنتم بأفعالكم من تصنعون إرهاباً وعنفاً يدخل الدنيا في دوامة حرب على الإرهاب. يا سادة، أنتم لو أنصفتم أول صانعيه، نعم حرب على إرهاب أنتم صانعوه، قد يستغل هذا الشأن من يستغل، وقد تخرج الأفكار متطرّفةً من هنا أو هناك، ولكنكم لا تنسوا أن هذا المعمل أنتم من أنتجه من فكرٍ مدمر، ومن أدمغةٍ مفخخةٍ ومن حالٍ لا يسر، لا يمكنه أن يمر، هذه المآسي هي صانعة لكل حالة انتقام، لأنكم تواطأتم على الأوطان وتجاهلتم الإنسان، إنساننا كإنسانكم، هجرتم أهل هذه البلدان.
مصانع الإرهاب ومعامل العنف تنشأ وتتخلق في محاضن النفاق الدولي، وتواطؤ الدول القوية على الشعوب الضعيفة، ولكن هذه الأوضاع ستكون في مآلاتها وآثارها وخيمةً تجلب أفعالاً مدمرة، ونهايةً مدويةً يجب ألا يلوم هؤلاء إلا قبح أفعالهم، وكيف أنهم صنعوا من البشر قنابل موقوتة في أرض الإنسانية، لأنهم أهملوا الإنسانية، واستخفوا بها ومات الضمير. إنها النتيجة المؤكّدة، حينما يموت ضمير الإنسانية، ويموت ضمير أهل العروبة والعربية، حينما ينتظرون النكبة بعد النكبة، ويتلاومون "النكبة مجدّدا"، في أرض القصعة العربية يموت الضمير، ويموت كل معنى من معاني المسؤولية، وتموت حقيقة الإنسانية.
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".