من الصعب على أي كاتب أن يؤبّن جورج طرابيشي بقول واحد محدّد؛ فالرجل الذي بدأ منذ الخمسينيات ناقداً أدبياً، رحل عن عالمنا وقد وضع الرواية والقصة، وهما الحقلان الأدبيان اللذان اشتغل عليهما في نشاطه الأدبي، وراء ظهره، ليتفرّغ في العقود الأخيرة من القرن العشرين، ومن عمره، للتفكير في التاريخ العربي، أو الذهنية العربية، منذ فجر الإسلام حتى اليوم.
قد لا يكون هذا الانتقال، من حقل فكري إلى حقل فكري آخر، سمة تخصّ طرابيشي وحده، بل تشمل معظم النقّاد السوريين. وبهذا المعنى، فهي سمة سورية محضة، قد تحتاج إلى التأمّل والمتابعة في ما بعد. إذ بدأ معظم المشتغلين بالفكر في سورية، نقاداً أدبيين، ثم انتقلوا إلى ساحة الأفكار، حيث يحلو التنظير عن الوضع العربي، والذهنية العربية، والتاريخ العربي، وعن عصر النهضة، والأسئلة المجهضة، أو الأجوبة المستحيلة.
وهذا ما حدث مع طرابيشي، فقد تخلّى عن الاشتغال في النقد الأدبي، الذي قدّم فيه عدداً من الكتب الهامة في النظر إلى الرواية العربية، وإلى شخصياتها الروائية من منظور التحليل النفسي، بعد أن سلّط أضواء جديدة على عدد من الشخصيات التي باتت تشكّل علامة في الثقافة العربية، مثل رجب بطل رواية عبد الرحمن منيف "شرق المتوسّط" ومصطفى سعيد بطل رواية الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال"، وغيرها من الشخصيات الروائية التي منحتها دراسات جورج طرابيشي حضوراً مستقلّاً عن خالقيها من الروائيين العرب، في الثقافة والحياة العربية، بحيث بات الكثير من القرّاء، يستطيعون التعرّف إلى رجب آخر مستلق على سرير التحليل النفسي المعدّ من قبل الناقد، غير رجب الرواية المعروفة.
استند في ذلك كله إلى مرجعية نقدية أوجزها في مقدّمة كتابه "عقدة أوديب في الرواية العربية" بالقول إن دراسته لم تنس أنها دراسة في النقد الأدبي، لا في علم النفس، وهذه ضمانة ضد اختزال النص الأدبي، كما فعل فرويد في دراسته عن دوستويفسكي، حين لم ير إلا العصابي.
انتقل من تحليل الرواية العربية، إلى تحليل التاريخ العربي، والثقافة العربية، وفق المنهج ذاته، وقد بدا في هذا الحقل من الكتابة غاضباً، وجافّاً، افتقرت كتابته فيه إلى ذلك الهدوء، وإلى تلك اللدانة التي وسمت أعماله النقدية الأدبية. وقد يكون للطابع السجالي الذي أخذ شكل الشجار المعرفي بينه وبين عدد من الباحثين العرب، دور في إذكاء روح السخط التي تسربت إلى كتاباته البحثية. وهو أمر لم يكن ممكناً ملاحظته حين كان يستنطق الشخصيات الروائية، التي لم تكن تعاركه في الكتابة.
لكن ما سر صمته في السنوات الماضية؟ هل شعر المفكّر بالخيبة تجاه لا جدوى الرسالة التي اضطلع بها؟ ربما. فهو يعترف في شهادته الأخيرة، بفشله، منذ هزيمة حزيران. بل بفشل جيله كله، أو بفشل الأمة كلها. وهو أمر محبط للغاية، إذ يشعر الكاتب أخيراً، أن رسالته لم تصل، وأن التخلّف في العالم العربي ما يزال أقوى بكثير من رسائل التنوير التي اضطلع بها.
اقرأ أيضاً: جورج طرابيشي.. المحطة الأخيرة