حول بركة في حديقة بعيدة

22 ابريل 2016
"ميرون"، أمل كعوش / فلسطين
+ الخط -

ما زلت أدور حول البركة المائية في إحدى حدائق برلين. الذكريات، تتمشّى في رأسي ريثما تجد مستقرّاً لها. مذ خرجت من بيتي صباح اليوم، وأنا أتجوّل في شوارع المدينة؛ بحثت عن وجه طفل ضحوك، عن بقايا حب على أحد المقاعد، وعن مكان آمن ومريح كي أوقفَ الصّداع اللعين.

أصابتني البارحة نزلة شوق إلى الماضي. رأيت صبيّاً يشبهني، يخرج صباحاً وفي جيبه خمسة شواقل، "شيقلين فلافل، وثلاثة حمّص"، العبارة ذاتها التي أشدو بها لصاحب المطعم، مذ أصبحت مؤهلاً للذهاب وحيداً لأشتري الفطور.

ذات مرة، أوقفني ولد من أولاد قريتنا السيّئيين، أخذ مني النقود، ثم بطَحَني على الأرض وركلني برجله، عدت إلى البيت مهزوماً، حزيناً، دفنت نفسي في حضن أبي، وأنا أبكي. قبّلني على جبيني، ومسح الدم النازف من الجرح.

كان عصاميّاً حتى في موته، لم يشكُ أو يزعج أحداً. توضّأ، صلّى ركعتين، ثم وضع رأسه على الوسادة، لينسحب بهدوء. خرجت جنازة كبيرة من مسجد القرية القديم، حمله الأهالي في تابوت أخضر، وساروا به نحو المقبرة، أراقت أمي عليه الدموع حتى جفّت عيونها. يبدو أنها لم تقدر على العيش بعده، لحقت به بعد شهر واحد. كانت لا تفارقه، تخدمه بعيونها، تحضر له الفطور بقلبها الكبير قبل يديها، تسهر على راحته إذ يمرض، تحزن لحزنه، تفرح لفرحه.

أرى رجالاً يعودون من المعركة، حاملين بنادق الشهداء ليمنحوها لأولادهم، تستقبلهم المرأة التي كانت قبل دقائق زوجة هنيئة، وأصبحت الآن أرملة. "طلّت البارودة، والسّبع ما طَل" تغني زوجة الشهيد، تزغرد، تعطي البندقيّة لابنها وكأنها تضع بين يديه كنزاً وليس بندقية، تقول له: "خذ، هذا من أبوك، امسكها منيح، رح يجي يوم وتستخدمها"، وتمتزج الدموع بالبارود، ويشتبك الحلم بالواقع. ترتفع الآهات والزغاريد وتتكاثف، لكنّ الشمس لا تغيب.

تذكّرت، وأنا أمارس هوايتي في التشرّد على أرصفة العالم، جنوداً مدجّجين بالحقد والأوامر العسكريّة، يضربون على باب دارنا بأعقاب بنادقهم: "افتخ، افتخ". يصرخ أخوتي الصّغار من الخوف، يهربون إلى أمي ويختبئون في حضنها. وأمي خائفة أكثر من أولادها، لكنها تتصنّع الشجاعة أمامهم. تدخل عصابة الهاغانا إلى بيتنا، ها أنا أراهم يبحثون بين صحون المطبخ، وراء خوابي الزّيت وتحت أكياس الطحين، بين ألعاب أخوتي، يمزقون أغطية السرير الوحيد وبطانيّاته، فيتبعثر الصوف في أرجاء الغرفة.

حبي الأول، فتاة الحارة والتي كان يركض خلفها كل شباب القرية، تضحك على حماقتهم حين تراهم يتعاركون مثل الدّيوك، فيظن كل واحد منهم أنها وقعت في غرامه. في المساء، نجلس نعد النجوم ونلعب "بيت بيوت". عندما أكملت السادسة عشرة، أصبحتُ أراها على الشبّاك، في الثامنة عشرة رأيتها مع زوجها، وعند أول ولد أنجَبَته لم أعد أراها.

جدي الذي استشهد في إحدى معاركه ضد الإنجليز، ظلّت جدتي تسبّح باسمه حتى ماتت. كانت أمي تخبرني بأحاديثها وحكاياتها، كأنه فرض عائلي ومهمّة وطنيّة. قالت لي إنه كان يأتي لها ببرتقالة من حيفا، تشم رائحتها عن بعد ميل، لا أدري إن كانت جدتي تبالغ أم أنه الحب أم الحقيقة. قالت إنه صارع الضّبع ذات مرة فقتله، ثم حمله على كتفيه حتى وصل القرية، أحاط به الشباب وحسدوه على قوته وبأسه رغم كبره.

ذهب مع الثوار وعاش في الجبال مع الوحوش، لم تبقَ مدينة أو قرية في شمال الضفة الغربية لم تسمع به. جدّتي لم تكن تتذكّره فقط، بل كانت تغنيه وتنظم به القصائد، هذا أول ما خطر على بالي. قالت لي أمي إنه حين وصلها خبر استشهاده، تغيّر لونها ووجم وجهها لكنها لم تبكِه، وإنما ذهبت إلى غرفتها بعد أن تعثرت وهي في طريقها أكثر من مرّة. لم تخرج من غرفتها إلا بعد سنة، وحين خرجت لم تكن تتحدّث إلا عنه، وكأنها تتنفسه وتعيش على ذكراه.

غابَ كلٌّ من جدي وجدتي وأبي وأمي، وبقيت وحيداً أذرع مثل مجنون في شوارع برلين. "بدّي أروّح" داخلي يصرخ، وقلبي يذوب في كل يوم مثل ندفة ثلج. إلهي، متى أعود إلى ذكرياتي دون حواجز وجنود؟ إلى وجه أهلي وأجدادي دون غرباء. إلى ابنة الجيران، وألعابي، ودفاتري القديمة، ملامح العجائز في الطرقات، ابتسامات الباعة المتجوّلين، والمجانين والعشّاق في قريتنا، هذه الغربة تصنع مني قطعة فنية تصلح أن تكون في متحف فقط.

(فلسطين)