حوض المتوسط برواية صلاح ستيتية

22 اغسطس 2014
"فلسطين من البحر إلى النهر"، سامية حلبي، 2003
+ الخط -

يتصرّف بعض الغربيين اليوم وكأنّ منطقة حوض المتوسط في حالة احتضارٍ وستتحول قريباً إلى "متحفٍ" لما ابتكرته على مر الزمن. لكن الحقيقة، بالنسبة إلى الشاعر اللبناني صلاح ستيتية، هي غير ذلك. ففي بحثه "ثقافة وعنف في حوض المتوسّط" الذي صدر عام 2008 وأعادت "المطبعة الوطنية" نشره حديثاً، يغوص في روح هذه المنطقة لإظهار طاقاتها الفريدة وتفسير مسألية أو إشكالية تلاقي مفهومَي الثقافة والعنف في طبيعتها منذ البداية.

وفعلاً، يعيد ستيتية في هذا البحث تقويم جميع المآسي والحروب التي عرفتها منطقة المتوسّط على ضوء جدلية الموت والانبعاث التي تظهر فيها أكثر من أي منطقة جغرافية أخرى، بدون شك بسبب ضيق فضائها الذي يُشكّل منذ فجر التاريخ مسرحاً لأحداثٍ عظيمة. وفي سعيه هذا، تتجلى لنا تدريجياً صورة هذه المنطقة كمركزٍ لجميع التناقضات. والسبب؟ طبيعة الإنسان المتوسّطي الذي يؤمن، وفقاً إلى ستيتية، بنظامٍ معيّن وموقّت وليس بنظامٍ أكيد ونهائي. فحقيقته ترتكز على تردّدٍ بين نقيضين، وعلى دحض أي أطروحةٍ بنقيضها.

في البداية، يمنحنا الشاعر فكرةً دقيقة عن الإنجازات الكثيرة التي حققتها شعوب هذه المنطقة لخير البشرية جمعاء، فيبيّن كيف وُلدت على شواطئ المتوسّط الفلسفة والكتابة والعلوم، وكيف ظهرت الشرائع السماوية الموحّدة في أرجائه إلى جانب القوانين الاجتماعية المكتوبة.

بعد ذلك، ينتقل إلى المدينة التي هي أيضاً ابتكارٌ متوسّطيٌ وجوابٌ على فوضى الكون، بفضل تعقيدها المُنظَّم. وفي هذا السياق، يتناول غنى حوض المتوسّط بمدنه التاريخية الكثيرة (أثينا، طروادة، صيدا، صور، بيبلوس، روما، قرطاجة، أنطاكيا، دمشق، القدس، الإسكندرية، بالمير، بترا، البندقية، فلورنسا، جنوى، اشبيلية، غرناطة، قرطبة، الجزائر، تونس...) متوقّفاً عند حجم وطبيعة العلاقات بين هذه المدن، رغم تنافسها الذي يأخذ أحياناً طابعاً عنيفاً، ما يعكس حدّاً أدنى من القبول بالآخر، وبالتالي من العدالة في كل منها.

وأكثر من ابتكارهم للمدينة، يعتبر الشاعر أن المتوسّطيين هم وراء فكرة قدسية المدينة، كما تشهد الهالة التي تتمتّع بها مدنٌ مثل القدس (التي يفرز لها فصلاً كاملاً) ومكّة والمدينة المنوّرة وروما وقسطنطينية وأنطاكيا. لكن المتوسّط، في نظر ستيتية، ومن خلال كل واحدة من مدنه، هو قبل أي شيء مدينةٍ محصّنة تولّد إلى حد اليوم لدى أبنائها ذلك الشعور القوي بالقدر المشترَك الذي يمنحهم تلك الميزة التضامنية التي تعرِّف بهم وتحدّد سلوكهم. وهذا ما يشرح، بحسب ستيتية، لماذا يبقى الخروج عن الاجماع السائد خطيئة كبرى في القيم المتوسطية حتّى اليوم.

ولا يُهمل الشاعر علاقة الشعر الجوهرية بالبحر المتوسّط الذي، بفضل جاذبيته وطابعه الأليف، تجرّأ الإنسان منذ فجر التاريخ على الإبحار في مياهه، فكان أوّل بحر يفتح أمام الحلم فضاء السفر، ثم فضاء العودة المشبع بالحنين. وفي هذا السياق، يستحضر أساطير عوليس وأوروبا وقدموس وهِرمس التي تشهد، في نظره، على نوعٍ من الحلف بين الشعر وبحرنا.

باختصار، يعتبر ستيتية أن حوض المتوسّط لم يشكّل فرصةً وفضاءً فريدين لاختلاطٍ فكري وديني وعقائدي وفني؛ إلا لأن شعوبه عرفت كيف تحافظ على إدراكها لذاتها بدون أن تتخلى عما هو جميل وجذّاب في الغريب أو الجديد. فقد عرف المتوسطيون، عند كل موعد بين الأنا والآخر، كيف يحوّلونه إلى فرصةٍ لتعمّقٍ متبادل.

لكن، بما أن لكل "ديكور" خلفيته؛ لا يتردد الشاعر في إجراء مكاشفة بشأن هذه المنطقة التي أطال في تبجيلها. فالديمقراطية مثلاً التي وُلدت على شواطئنا ما تزال متعثّرة في معظم العالم العربي. وكذلك الأمر بالنسبة إلى بحرنا الذي يصوّره ستيتية كبحرٍ تغرق فيه جميع الأفكار والبديهيات والحضارات، الواحدة بعد الأخرى. إنها الأمثولة المريرة التي يتعلّمها المسافر من الأعمدة الأثرية التي لا تزال منتصبة في جميع أنحاء منطقتنا، من وادي الملوك إلى كورينثيا، ومن فولوبيليس إلى بعلبك.

وفي السياق ذاته، ينتقد ستيتية جنون المتوسّطيين ونزعة المغالاة لديهم اللذين يتحكّمان بمآسيهم منذ البداية. فالنصوص الروحية والفكرية التي ظهرت في منطقتنا لم تمنعنا من تدنيس تعاليم الأنبياء أو صلبهم أو طردهم، ومن تسميم فلاسفتنا (سقراط) ومحاكمة علمائنا ومفكّرينا العظماء (بيريكليس، دانتي، غاليليو...). كما لو أن جميع الشرائع والقوانين والنصوص التي تعكس أصفى ما فينا لم توضع بتصرّفنا إلا كي نلتف حولها ونخونها! ومن هذا المنطلق، يتّهم الشاعر الإنسان المتوسّطي بأنه لا يستهدف البعيد والسامي إلا لتحويل نظره عما يناديه ويُسائله بشكلٍ طارئ قربه.

المساهمون