ما إن تجري استعادة الروائي السوري حنا مينة (1924 - 2018) الذي رحل عن عالمنا أمس الثلاثاء، إلا وألحق به توصيف "رائد أدب البحر" عربياً، وهو توصيف اختزالي بالرغم من أنه ينطبق إلى حد ما على أدبه، وربما كان تكريس هذا العنوان كاشفاً لمناخ التقبّل الأدبي في العالم العربي الذي يستريح لمقولة ما فلا يغادرها إلا نادراً، وقد أفضى ذلك إلى قراءة محدودة لهذا الكاتب أو ذاك بناء على رؤية أولى جرى تكريسها بمرور الزمن، وكثيراً ما تلعب عوامل من خارج الأدب، خارج النص تحديداً، أدواراً أساسية في ذلك، من السياسة إلى واقع العلاقات العامة في الفضاء الأدبي.
يمكن أن نشير هنا إلى أن مصطلح "أدب البحر" كجنس فرعي في الرواية مستورد من الثقافة الغربية، وفيها يعني الأعمال التي يكون البحر إطارها وفاعلاً فيها، غالباً فوق سفينة، ومثلها الأبرز رواية "موبي ديك" للكاتب الأميركي هرمان مالفيل، وهذا التعريف لا ينطبق بشكل كامل على أدب مينة حيث كانت أحداث رواياته تقع غالباً على تخوم البحر لا داخله، ويكون المكان المحوري إما الميناء أو المقاهي والفضاءات المحيطة به، ومنه ينفتح صاحب "الياطر" على عوالم أخرى ويذهب بالسرد في مسالك نفسية واجتماعية وذهنية شتى.
ما تذهب إليه تلك المسالك هو ما نسيت القراءة المكرّسة كثيره، وهو ربما جوهر مشروع حنة مينة؛ رواية اجتماعية قابلة للقراءة على مدى واسع، وقد استمر طوال مسيرته في خياره لبنية سردية وأسلوبية خفيفة يمكن أن توصل الأفكار والمواقف التي في العمل بأيسر الطرق إلى متلقيها. ويمكن أن نشير هنا إلى أن روايات مينة مقروءة لدى شريحة شابة أكثر من فئات عمرية أخرى، وقد يكون أحد أسباب ذلك القناعة العامة المذكورة آنفاً عن أن أدبه "أدب بحر"، وهذا الأخير أحد تنويعات أدب المغامرة الذي يستهوي القارئ الشاب.
بدأت مسيرة صاحب "بقايا صور" بنشر قصص قصيرة في عام 1947 على صفحات الجرائد السورية، وفي 1959 ظهرت أولى رواياته؛ "المصابيح الزرق". هذا الانتقال على مستوى الجنس الأدبي لم تجر دراسته بعمق، وكأن الأمر يتعلق بانتقال من مهنة إلى أخرى، وهو ما حدث بالفعل مع مينة الذي اشتغل - كما ردّد هو طويلاً - حلاقاً وحمّالاً وبحّاراً ومصلح درّاجات وموظفاً حكومياً، إضافة إلى التقاطع مع العمل الصحافي والنضال الوطني ضد الاستعمار الفرنسي ثم العمل السياسي لاحقاً.
منذ "المصابيح الزرق"، سنلاحظ استقراراً في خيارات مينة الفنية، مجمل منجزه يبدو مثل البحر وقت هدوئه: حركة خفيفة توحي بالحياة، وثبات في خيار الرواية كجنس، وفي تفاصيلها مثل الحجم والأسلوب والمزاوجة بين السرد والوصف والحوار، وإدخال بعد تأمّلي في لحظات مدروسة من العمل، وكأنه وجد وصفة لم يعد يريد الخروج منها حتى وهو ينتقل من رواية الالتزام إلى الكتابة النفسية. حتى بعض الأعمال غير الروائية مثل "لماذا حملت القلم؟" و"ناظم حكمت: السجن، المرأة، الحياة" لم تخرج إلا قليلاً عن ذلك.
عادة ما يكون النقّاد متيقظين إلى مسألة ارتباط العمل الروائي بالحياة الشخصية، ومرة أخرى بدا أن هناك إجماعاً بأن ما رَسَمه صاحب "مأساة ديمتريو" مستمد في الأساس من تجربة العمل البحري، لكن لماذا لم يظهر أثر المهن الأخرى الكثيرة التي اشتغلها؟ ثم، في سؤال أكثر علاقة بالأدب، لماذا لم يفكّر في كتابة سيرة ذاتية كجنس أدبي بديل، واختار أن تكون اللقطات المأخوذة من حياته عناصر يؤثث بها التركيبة الروائية نفسها التي اعتاد عليها؟
بعيداً عن الروايات، سنجد هذا الأثر السير-ذاتي في وصية كتبها حنا مينة منذ سنوات، حيث يقول بشكل تفصيلي: "أنا حنا بن سليم حنا مينة، والدتي مريانا ميخائيل زكور، من مواليد اللاذقية عام 1924، أكتب وصيتي وأنا بكامل قواي العقلية، وقد عمّرت طويلاً حتى صرت أخشى ألاّ أموت، بعد أن شبعت من الدنيا، مع يقيني أنه "لكل أجل كتاب". عندما ألفظ النفس الأخير، آمل، وأشدد على هذه الكلمة، ألاّ يذاع خبر موتي في أية وسيلة إعلامية، مقروءة أو مسموعة أو مرئية، فقد كنت بسيطاً في حياتي، وأرغب في أن أكون بسيطاً في مماتي، وليس لي أهل، لأن أهلي، جميعاً، لم يعرفوا من أنا في حياتي، وهذا أفضل، لذلك ليس من الإنصاف في شيء أن يتحسروا عليّ عندما يعرفونني، بعد مغادرة هذه الفانية".
ربما عرفت هذه الوصية شهرة لم تعرفها مثيلاتها من وصايا الكتّاب والمثقفين العرب، يعود ذلك إلى سبب غريب، فقد أشيع خبر رحيل حنا مينة في السنوات الأخيرة مرّات ومرات. بالمناسبة يحدث ذلك مع فئة غير قليلة من الكتّاب المتقدّمين في العمر.
كانت هذه الأنباء أبرز شكل من أشكال حضور صاحب "المغامرة الأخيرة" في متداول الثقافة العربية مؤخراً، في ظل خفوت النقد الأدبي المهتم به، وربما نجح المخرجون في السينما والتلفزيون في اقتناص لمحات جميلة في أعماله أفضل مما فعل النقاد، فمثلاً كان للمسلسل التلفزيوني "نهاية رجل شجاع" وقع إيجابي في عودة القرّاء إليه. قد يكون رحيله سبباً أيضاً في قراءة متأنّية بعيدة عن الجاهز من عقود.