حميد دباشي: الواقع العربي يحتاج أسئلة غير اعتيادية

19 مايو 2017
دباشي في "معهد الدوحة" (العربي الجديد)
+ الخط -

يتحدّث حميد دباشي الأكاديمي الإيراني-الأميركي في "جامعة كولومبيا"، والأستاذ الزائر بـ"معهد الدوحة للدراسات العليا"، إلى "العربي الجديد"، عن عمله الأخير المترجم الى العربية "هل يستطيع غير الأوروبي التفكير؟" (المتوسط، 2016)، وإسقاطاته على السياق العربي، مؤكداً على حاجة العرب للتركيز على ذواتهم ومشاكلهم، أكثر من صورهم في مرايا الغرب/الآخر. كما عرّج المفكر ما بعد الاستعماري على مآلات "الربيع العربي"، ودور الأكاديميا العربية في التعامل معه ومع ما بعده، وعلى أزمة السياسة والأيديولوجيا والسرديات الكبرى في العالم المعاصر.


■ فلتكن البداية من كتابك المترجم مؤخرا إلى العربية، "هل يستطيع غير الأوروبي التفكير؟" ولنحاول إسقاط السؤال بشكل أكثر تحديداً على السياق العربي، هل يستطيع العربي التفكير؟ هل بمقدوره أن يتكلم؟

- الجواب البديهي لهكذا سؤال هو نعم. العربي يستطيع التفكير، كما يمكن لأي إنسان التفكير، وبمقدوره أن يتكلم بما يفكر فيه. هذا إذا ما أخذنا قشرة السؤال. لكن صيغة السؤال كما طرحتُها في مقالي أو كما جاءت بها غياتري سبيفاك أيضاً، هي بالأساس تهكمية. السؤال الذي يجب طرحه هنا، هو كيف يمكن للعربي التفكير؟ فسؤالي عنوان الكتاب، كان يحاول التعامل مع لحظة تاريخية محددة، في الفترة اللاحقة لثورات الربيع العربي. بدأت حينها، أدرك أن الابستمولوجيات القائمة في العلوم الإنسانية والاجتماعية خصوصاً في العلوم السياسية والتاريخ، لم تعد كافية لفهم حدث بهذه الضخامة والمغناطيسية، بل فهمته بشكل عكسي، وأسقطته على ما كانت تعرفه مسبقاً. لقد جعلت التفكير صعباً وفي أحايين كثيرة مستحيلاً من خلال هذه التخصّصات المعرفية السابقة.


■ كيف يمكن الخروج من هذا المأزق في نظرك؟ هل القطيعة ممكنة في هذه الحالة؟

- لقد فكّرَتْ، هذه الابستمولوجيات القديمة من العلوم السياسية وحتى السوسيولوجيا وغيرها، عبر أسئلة مألوفة في أحداث غير اعتيادية. المخرج هنا، يكون في طرح أسئلة غير اعتيادية، وهي أسئلة ولدت مما وقع في العالم العربي، وهي تحتاج إلى نوع محدّد من اللغة للتساؤل حولها؟ وأنا هنا لا أتحدث عن العربية أو الإنكليزية أو غيرها، بل على الابستمولوجيا والأنطولوجيا والتحليل النقدي الكامن خلف السؤال، وهي لغة لا يمتلكها التفكير الأكاديمي المركزي الأوروبي المهيمن، الذي يعتبر طوراً متجاوزاً في ما يخصّ الإنتاج المعرفي. وعودة إلى السؤال الأول، نعم يستطيع العربي التفكير، لكن عليه أن يتحدث بلغة جديدة تعبّر عن واقعه، وتنطلق من سياقه، بدون أن يكون في ذهنه رجل أوروبي أبيض متخيّل يراقبه وهو يطرح الأسئلة حول ما يحدث في بلاده. عليه أن يغيّر المخاطَب كما كنت قد أسلفت الذكر في كتابي "ما بعد الاستشراق".


■ في هذه الحالة، أقصد عندما يتكلم العربي ويفكّر بلغة جديدة، كيف يمكنه أن يكون مفهوماً في السياق الإنساني العالمي؟ هل سيتم سماعه؟

- لا يجب أن يكون الهدف جعل الآخرين يفهمونك، الهدف الأساس يجب أن تفهم أنت. فليس بالضرورة أن يفهمني الغربي الفرنسي أو الأميركي، كي أسمع صوتي وتُحلّ مشاكلي. فعندما تكون تحت حرارة حريق، أو مغموراً بمياه فيضان، أو في حالة هيجان ثوري يجب أن تفهم أنت والمحيطون بك ما يحدث لتنقذوا أنفسكم، الآخرون لا يصبحون مهمّين في هذه الحالة كثيراً. الهدف الأساس هو جعل الحقائق القائمة على الأرض، تولّد ابستمولجيتها الخاصة، لا الرضوخ للضغط الخارجي، ولعب دور الوسيط بين ما يحدث وبين العالم الخارجي. يجب أن يكون هدفنا الأساس، متمثلاً في المثال المجازي في أعمال ناجي العلي: حنظلة، الذي يعطي ظهره للعالم، ويركز على الحدث ويواجهه، ولا يهتم كثيراً ما الذي يفهمه الناس، إنه يلعب دور الشاهد، ويرفض زحزحة عينيه وتركيزه عن الحدث المؤلم، ويداه خلف ظهره في حالة تفكير مستمر.


■ في هذه الحالة يمكننا الاحتفاظ بسؤال التفكير، ويصبح سؤال سبيفاك عن التكلم غير ذي جدوى، ما دمنا لا نلقي بالاً للآخر؟

- قد يكون الأمر ذلك، لأنه عندما سألت سبيفاك سؤالها: هل يستطيع التابع أن يتكلم؟ كان هدفها البرهنة على أن الجواب هو لا، فهذا الرجل الأبيض المتمركز حول أوروبيته لا يريد السماع أصلاً، هنا لا تعود الحاجة هي إسماعه ولا استخدام لغته، بل نحن في حاجة إلى تفكير نقدي جديد، بعيداً عنه وعن لغة علومه التقليدية، وانطلاقاً من الأحداث نفسها، من فلسطين إلى مصر إلى سورية وباقي البلدان العربية. فهذه العلوم لم تنزل من السماء، بل كانت نتاجاً لحقبة ما معينة، ولأحداث محددة أنتجتها خارج سياقنا وخارج زماننا. العالم العربي الآن أيضاً، مر ويمر بفترة تاريخية جديدة كلياً، تصبح فيها هذه العلوم القائمة غير كافية، بل ومضادة للفهم الصحيح.


■ تركيزاً على الانتفاضات والثورات العربية، وعلى الثورات المضادة من بعدها، ما الذي نحتاج فهمه بالضبط بعيداً عن التقليد العلمي القديم -حسب قولك- للعلوم الإنسانية والاجتماعية؟

- إذا استخدمنا مثال النظارات الطبية، عندما لا تعود تسعفني في الرؤية، فإما أن الواقع تغيّر، أو أن نظري قلّ وعلي تغييرها في الحالتين. فعندما أقول إن العلوم الاجتماعية والإنسانية بصيغتها التقليدية لم تعد كافية، فهذا لا يعني إيقاف التفكير النقدي كما حصل مع كثير من الأكاديميين العرب، بل الحاجة إلى تفكير نقدي أكثر. فنحن إذ نتخلى عنها، فذلك يكون بغرض القيام بانزياح معرفي نحو الحدث في حد ذاته، وإقامة نوع من الجدلية بين الجذور المعرفية السابقة لهذه العلوم، وبين الواقع الجديد الذي ولده الحدث نفسه. باختصار، يجب علينا ترك الحدث يولّد مفاهيمه الخاصة، ففي كتابي عن الربيع العربي، قلت إن شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، ليس المقصود منه فقط النظام السياسي كما يمكن أن تفهم "العلوم السياسية"، بل أيضاً إسقاط النظام المعرفي الشامل وراءه. هذا ما يجب علينا فهمه، والبحث عنه في المرحلة التي نعيشها.


■ قلت في كتابك عن "الربيع العربي" إنه كان نهاية للشرط ما بعد الاستعماري، هل ما تزال مؤمناً بذلك بعد تحوّل بعضه لثورات مضادة وانقلابات وحروب؟

- أكيد، فحجتي كانت أنه في الصراع العربي مع الاستعمار، ظهرت ثلاثة تيارات أيديولوجية هي الإسلاموية، والقومية الوطنية، واليسار الاشتراكي العالم ثالثي. هذه الأيديولوجيات/نظم إنتاج المعرفة، استنزفت اليوم واستنفدت نفسها، وهذا لا يعني أنها اختفت، لكنها كانت تشكلات تاريخية في سياق استعماري/ما بعد استعماري، وفي حوار وتضاد بين بعضها البعض. لقد كانت هذه التيارات تمثل الشرط ما بعد الاستعماري، بحيث إنها كانت تريد تقديم البديل عنه، وكانت كل واحدة فيها على حدة تقدّم أجوبة كبرى في سرديات متكاملة، اليوم بعد أن ظهر فشلها جميعاً ما قبل وما بعد الربيع العربي، انتفى كذلك معها الشرط ما بعد الاستعماري.


■ لكن هل يمكن للثورات النجاح اليوم من دون سرديات واضحة، أقصد هل السياسة ممكنة خارج تنافس أيديولوجي؟

- إننا اليوم لا نزال بدون بديل لهذه السرديات التي ظهر بأنها انتهت، ولا نملك أي سردية كبرى، وأنا غير قلق لذلك، لأننا بدل عنها نشهد صعود سرديات جزئية مختلفة، من الفن والجماليات والسينما والتخييل، إلى التفكير النقدي والتدوين الشبكي. هذه السرديات الصغيرة، بدأت تغيّر من الواقع العربي، لكنها في الآن ذاته لن تمكنك من تشكيل حزب سياسي على أساسها، وتعبئة الجماهير حولها، من أجل طور ثوري جديد، فلا وعد هوميري متاح اليوم، كوعد عبد الناصر للأمة بالخلاص. في هذه الحالة، يصبح التوجّه نحو الارتباك أو الفوضى سهلاً، وقد يفضي إلى سيناريوهات مخيفة، لذلك فإني أُسمّي الثورات اليوم بأنها مفتوحة على الاحتمالات، مستخدماً فكرة روايات باختين: "أنت لا تدري ماذا سيحصل في الصفحة القادمة، لكن شيئاً ما سيحدث لا محالة".

دلالات
المساهمون