حميد الهاشمي

22 سبتمبر 2015
مؤتمر "العنف والسياسة في المجتمعات العربية المعاصرة" (العربي الجديد)
+ الخط -
منذ أيام قليلة عُقد في قمرت بتونس (12 ـ 13 سبتمبر/ أيلول)، مؤتمر علمي تحت عنوان "العنف والسياسة في المجتمعات العربية المعاصرة". يمثّل هذا المؤتمر الدورة الرابعة من سلسلة مؤتمرات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. ويندرج هذا المؤتمر تحت موضوع "قضايا التحوّل الديمقراطي". ونظرًا إلى الأحداث المتسارعة التي تمرّ بها المنطقة العربية، فقد اختير موضوع المؤتمر بشكل مدروس، إذ لا ريب في أن العنف بدأ يتّخذ حيّزًا واسعًا ثمّ أوسع في قلب المجتمعات العربية. إشكالية العنف إذن، هي الكلمة المفتاح التي منها تفرّعت وتشعّبت مواضيع الأوراق البحثية للباحثين المشاركين. ومن أجل مقاربة مختلفة وعميقة لموضوع المؤتمر، ومن أجل الإطلالة عن كثب على مضمونه، كان لا بدّ من الاختيار، كذا اختار "ملحق الثقافة" محاورة أحد الباحثين المشاركين؛ الدكتور حميد الهاشمي، الأكاديمي العراقي والباحث في الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع، إذ إن عنوان ورقته في المؤتمر حمل جاذبية خاصّة "حركات اللاعنف في العالم العربي: بين التأصيل النظري والتطبيق العملي"، تتيح فتح أبواب الأسئلة المنطلقة من واقعنا ومن تجاربنا في "الربيع العربي" ومآلاتها.
فكان السؤال الأوّل عن الحالة التي وجدت فيها الدول العربية نفسها عرضة للعنف. أهي حال طبيعية متوقعة ضمن سياق تاريخ الثورات؟ فأجاب الهاشمي قائلًا: "حالات العنف هي أحد المظاهر التي ترافق الثورات أو تتبعها، هي نتاج خسارة أصحاب النفوذ لامتيازاتهم، وشعورهم بالتهديد، كما أن بعض الفئات المتضررة من المرحلة السابقة، قد تلجأ إلى أفعال انتقامية خارج القانون. ناهيك عن أن المرحلة الانتقالية تتّسم بهشاشة الوضع الأمني، وضعف سطوة القانون، وبالتالي فالمجال سيكون متاحًا إلى حد ما للعصابات والمجرمين لأن يمارسوا عنفاً وخرقاً للقانون". هذا الوصف الواقعي العلمي للأوضاع قاد إلى السؤال الثاني حول العوائق التي لا تزال تحول دون تحقيق انتقال سياسي ديمقراطي وسلمي في العالم العربي، وهنا أكد الباحث أنه "لا يمكن وضع البلدان العربية كلّها في سلّة واحدة، فالتفاوت واضح بينها، ابتداءً ببلدان الربيع العربي مثلًا وصولًا الى باقي البلدان. ويكمن التفاوت في عدة عوامل تؤثر بالضرورة في عملية الانتقال الديمقراطي وطول مدة تحققها. ومن أبرز هذه العوامل؛ درجة الانقسام المجتمعي دينيًا، إثنيًا، طائفيًا، جهويًا، قبلياً، ومقدار العنف الذي تمّت ممارسته من قبل الحكم الديكتاتوري السابق، وطبيعة التغيير (الثورة مثلًا) الذي أحدثته، ومقدار العنف والضحايا خلالها، ومدى التدخل الخارجي ودرجته في واقع هذا البلد أو ذاك، إضافة إلى مستويات التعليم وما إلى ذلك. فهذه العوامل تؤثر في عملية الانتقال السياسي، بل وحتى الاستقرار في هذا البلد أو ذاك. ويمكن تطبيق هذه المسطرة على البلدان العربية من تونس وصولًا إلى ليبيا واليمن أو حتى سورية". وإذ أدركنا التفاوت بين البلدان المذكورة، وتأمّلنا واقعها اليوم، خطر في البال سؤال عن البدايات "السلمية" أو "الحركات اللاعنفية" بلغة البحث العلمي وعن إمكانية وجود مستقبل لها لدينا، خصوصًا أنها موضوع ورقة الهاشمي في المؤتمر، فقال "حتى غاية عام 2011 حيث نجحت ثورة تونس، لم يكن من المتصَوّر أن ينجح أي حراك لاعنفي في إسقاط نظام ديكتاتوري في بلد عربي. كنت شخصيًا أتوقع حدوث حراك مماثل في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين ليحدث التغيير بطريقة مشابهة لما حصل في أقاليم أخرى من العالم، كأوروبا الشرقية، وقبلها في أميركا الجنوبية وغيرها، وذلك كقراءة لمستقبل العالم العربي. ولكن لحُسن الحظ خاب توقعي، وحدث ذلك بشكل أسرع. لقد كان لفعل الحراك السلمي الدور في تغيير الأنظمة في تونس ومصر واليمن، وأحدث إصلاحات مهمة في المغرب والآن في العراق. لذا فالتعويل على الحراك اللاعنفي يجب أن يكون أكبر من أي نموذج آخر للتغيير. حيث باتت لدينا ثلاثة نماذج للتغيير الآن، طُبّقت في البلدان العربية؛ الحراك اللاعنفي وأمثلته في تونس ومصر واليمن، ونموذج التغيير بـ"العنف"، وهو ما حصل في ليبيا ويحصل الآن في سورية، أما الثالث، فهو من طريق التدخل الخارجي كما حصل في العراق وليبيا نوعًا ما".

اقرأ أيضاً: علي الصالح مولى: سلطان المصلحة هدّد المثقّف

درس الهاشمي في جامعة بغداد، ما حتّم السؤال عن بلاد ما بين النهرين التي لم تعرف استقرارًا منذ سقوط نظام صدام حسين، وتغلغل فيها "المرض الطائفي"، وبين قائل بأن الطائفية صنيعة الإدارة الأميركية، وقائل إنها جزء من البنية التاريخية للمجتمع العراقي، أردنا سبر الأمر من وجهة نظر الهاشمي، الذي قال "معروف للمطلعين أن تاريخ العراق الحديث والمعاصر على الأقل لم يشهد احترابًا طائفيًا، وإن عملية الاندماج الاجتماعي كبيرة، خاصّة بين أبناء السنّة والشيعة، حيث ترتفع حالات التزاوج بين أبناء الطائفتين إلى حوالي 20%، حسب التقديرات، وذلك إلى عشية الاحتلال عام 2003. كذلك لم يعرف العراق انتشار الفكر التكفيري المتطرف سابقًا، بل كان حتى الانتماء للمذهب الوهابي محظورًا خلال فترة حكم صدام حسين. إلا أن قدوم موجات مَن عُرفوا باسم "المجاهدين" وانحراف مشروعهم في قتال الاحتلال صوب قتال أبناء البلد، قد سبّب هذه الأزمة الكبيرة في العراق، وزاد من حدّتها انهيار الوضع في سورية. إن لم يكن للإدارة الأميركية دور في تغلغل المرض الطائفي، فإن لها مصلحة بالتأكيد في وجوده وإثارته في البلد، خاصّة إبان وجود قواتها المحتلة آنذاك، لأن هذا المرض خفّف من استهدافها. والتخلّص من المرض الطائفي مرهون بعدة عوامل، منها داخلية تتعلق بإزاحة الطبقة السياسية ورموزها الطائفية، وتغيير نظام المحاصصة الطائفية، وذلك ما يسعى اليه الحراك الشعبي الآن المتمثّل بالمظاهرات التي تشهدها مدن العراق منذ شهرين تقريبًا. كما أن هناك عوامل خارجية مؤثرة، تتمثل بكفّ بلدان الجوار عن التدخل في الشأن العراقي وعدم تغذيتها للصراع فيه أو حتى استمالتها لجهة على حساب أخرى، وأيضًا توفّر إرادة عربية ودولية تهدف إلى تجفيف منابع الإرهاب وكبح جماحه من خلال إقرار معاهدة دولية تجرّم القتل على الهوية، وبموجبها تتمّ ملاحقة الذين يفتون بتكفير وإباحة دم الآخر على أساس هويته، وبمقتضى ذلك، يمكن حتى معاقبة البلدان التي تأويهم. والشيء نفسه ينطبق على ممولي الإرهاب والحركات التكفيرية. وأن يتم بموجب تلك المعاهدة وقف بث أي قناة فضائية أو محطة إذاعية أو صحيفة أو أي وسيلة إعلامية تحرّض على الفتنة وتبثّ أصوات التكفير والقتل على الهوية".
ومثل كثيرٍ من أبناء وطنه العراق، يعيش الهاشمي في "المنفى"، وتحديدًا في لندن، الأمر الذي أثّر ولا ريب في طريقة نظرته للأمور وخاصّة رصده المتواصل لمختلف تفاعلات المجتمعات والنخب الغربية. ما حتّم السؤال عن إمكانية قيام مصالحة تاريخية بين الغرب والعرب تكون بعيدة من المناورات وحسابات المصالح، وعمّا إن كان الغرب بعيدًا من موجة العنف التي تجتاح مرّة أخرى المنطقة العربية. فقال: "لا يمكن عدّ العرب كتلة واحدة، خصوصًا من الناحية السياسية، رغم وجود جامعة الدول العربية، خاصة إذا ما قورنت هذه الجامعة بالاتحاد الأوروبي. فبلدان الاتحاد الأوروبي مثلًا أو بلدان الحلف الأطلسي تلتزم بتعهداتها واتفاقاتها وقرارات الاتحاد والحلف، أكثر ممّا تلتزم البلدان العربية بقرارات جامعتها. هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، لا يمكن إلقاء أسباب أزماتنا على الغرب رغم دوره المؤثّر في بعض جوانب واقعنا. الغرب متوجّس من نقطة مهمة جدًا؛ حالة التطرف والإرهاب التي خلقت ما يعرف بالإسلاموفوبيا أو حتى العرابوفوبيا Arabophobia، وهي قد تقدّمت على قضايا مثيرة للاهتمام سابقًا مثل الديمقراطية والفقر في بعض البلدان العربية بل وحتى النزاع العربي الإسرائيلي".
يطلّ الدور السياسي للحركات الإسلامية التي تحوّلت اليوم إلى لاعب رئيس، إلى الحوار مع الهاشمي، لذا كان الفضول صوب تقييمه لدورها، وخاصّة أنها تواجه صعوبات هيكلية ورّطتها في إشكالات من الحجم الثقيل، فقال في هذا الصدد: "إن كنتم تقصدون حركات الإسلام السياسي، فأظنّ أن تجاربها في خوض غمار السلطة كما في أمثلة حركة النهضة بتونس والعدل والإحسان في المغرب والإخوان في مصر أو الأحزاب الإسلامية في العراق، فإننا نرى أن هذه التجارب قد أفاقتها من "مثاليتها" ووضعتها في اختبار حقيقة ما كانت تظنّه أو تدّعيه. فقد أصبحت هذه الحركات بمواجهة الشارع والواقع الاقتصادي والاجتماعي بكلّ تعقيداته، ناهيك عن العامل الدولي. لذا بات عليها لزامًا إعادة حساباتها بما يضمن رضوخها للواقع أو تكيّفها معه، أو على الأقل ما يضمن قبولها في الشارع وفق أدائها السياسي لا الإيديولوجي. لقد أصبحت ممارسة السلطة لدى بعض تلك الحركات الإسلامية عملية تسقيط لها، حيث فشلت في هذا الاختبار الحقيقي. لأن ممارسة السلطة فعل يختلف عن ممارسة الوعظ أو قيادة جموع مصلين وممارسي طقوس وشعائر".
وظهر مناسبًا سؤال الباحث، صاحب ورقة عن اللاعنف في المؤتمر، عن النقيض المتطرّف، أي ظاهرة داعش، وخاصّة أنها تلبس لبوس الدين الإسلامي في كلّ ما تقوم به، فهل العنف ملازم بالضرورة لهذا النمط من الحركات، أم أن ما يجري حاليًا داخل العراق وخارجه له ملابسات ظرفية ستزول قريبًا؟ بمعنى آخر كيف نفهم هذه الظاهرة؟ وهل نملك التنبؤ بمستقبلها السياسي والديني والاجتماعي؟ وهنا لم يترّدد الهاشمي في الإفاضة، فقال: "داعش كفكر وممارسة في الإسلام، ليست وليدة اليوم، فمثالها الأوّل يكمن في الخوارج الذين مارسوا القتل مع كلّ من يخالفهم، حتى قتلوا خليفة المسلمين علي بن أبي طالب مثلًا. كما أنهم يمثّلون الخط السلفي الراديكالي، الذي تمّ إحياؤه قبل حوالي ثلاثة قرون، ومارس أبشع أنواع الفتك والقتل على الهوّية في صفوف المسلمين. ما داعش الآن إلا نموذج معاصر لأولئك الخوارج، يعيشون بيننا ويتسلّحون بالأسلحة الحديثة ويستخدمون تسهيلات التكنولوجيا الحالية. مستقبلها مرهون بتجفيف منابعها، ووقف مواردها، وهي: موارد فكرية؛ فكر التطرف وتكفير الآخر، وذلك بحذفه من المناهج التربوية التي ما زالت تدرّسه للأسف في بعض البلدان. وفي هذا السياق أيضًا حظر كلّ المنابر الإعلامية التي تبثه سواءٌ أكانت مرئية أم مسموعة أم مقروءة، وكذلك منابر المساجد. وإن تطلّب الأمر صياغة معاهدة دولية تلاحق الأشخاص والجماعات والدول المتورطة أو المتساهلة فيه. وثانيها تجفيف الموارد المالية وملاحقة شبكاتها، حيث يتمّ إيقاف تدفق الأموال التي تصل إلى التنظيمات الإرهابية من أية جهة كانت أفرادًا أو منظمات أو دول. والثالث هو الموارد البشرية، حيث تتمّ ملاحقة المنتمين إلى هذه التنظيمات قانونيًا، وعدّ الانتماء إليها انتماءً إلى عصابة إجرامية منظمة. وتعاقب حتّى الدول التي تتساهل في تجميع أو تدريب أو تسليح أو مرور أو تسهيل إقامة هؤلاء.
مرّة أخرى كل ذلك يتمّ من خلال معاهدة دولية تلزم البلدان المعنية.
تتمّ ممارسة العنف إذا ما توفرت مسوّغاته الثقافية وأشدّها العقيدية؛ الدينية/ الطائفية، إلى جانب توفر السلاح الذي يشعر هؤلاء بالقوة، وضعف سطوة القانون الذي يحظر هذه الأفعال أو يجهض حدوثها. لذا فإن هذا العنف يمارس بأبشع صوره وبدم بارد في المناطق الرخوة أو الهشّة أمنيًا، التي فيها يكون الفاعلون بمنأى عن القصاص. وبخلاف ذلك، فإن الإرهاب يختار "لحظات الغفلة" في أي مكان من العالم الذي يستهدفه، ليصطاد هدفه لمرة واحدة، كما حصل عند ضرب برج التجارة العالمي في نيويورك عام 2001. إلى جانب كل ما ذكر، لا يمكن تجاهل عوامل أخرى موضوعية مرتبطة بظاهرة تنامي الإرهاب، وتتمثل في الوضع الاقتصادي لجهة ارتفاع معدلات البطالة والفقر وتدني مستويات التعليم وانعدام أو ضعف العدالة الاجتماعية، وغياب استراتيجيات مناسبة لاستقطاب الشباب وتحصينهم، وممارسة بعض القوى الدولية المهيمنة معايير مزدوجة من قضايا العرب والمسلمين الحسّاسة مثل قضية فلسطين والديمقراطية وغيرها، كل هذا لا شكّ له دور في تنامي ظاهرة التطرف، لكن الأبرز في رأيي هو ما سبق ذكره أعلاه، ويتعلّق بالتنشئة الفكرية والإيديولوجية المتطرفة التي لا تجد رادعًا حقيقيًا لكبحها، بل بالعكس تجد عوامل مغذية لها وتساعدها على الانتشار والتغلغل في الأوساط الشبابية بالخصوص، وتتمثل في الموارد والمصادر التي ذكرناها آنفاً".
المساهمون