عندما اعتقدت البشرية أنّها انتصرت على الأوبئة وقضت عليها قضاءً مبرَماً، متسلِّحة بالأمصال واللقاحات المضادّة لكلّ منها، فاجأها فيروس كورونا المستجدّ بشراسة نادرة وبطريقة انتشارٍ لم تعهدها مع الأوبئة سابقاً، ليقلب كلّ يقينياتها الصحيّة، متحدّياً بذلك الطبّ والبحث حتّى إشعار آخر، تاركاً لها هامشَ حركة ضيِّقاً يتمثّل في ما يُعرف بالحركات الحاجزة أو المانعة، أي التباعد الاجتماعي والحَجر، بمعنى التزام مكان واحد طيلة فترة الوباء.
تقييد الحركة ضمن نطاقٍ محدود ومنع الاختلاط وفق قواعد وشروط معيّنة خصوصاً حركة القادمين من أمكنة وبلاد يُشتبه بوجود وباء فيها أو قريب منها هي ما أسماه الغربيّون "الكرنتينة"، وهذا موضوع كتاب عمره 184 عاماً ألّفه حمدان خوجة بعنون "إتحاف المُنصِفين والأدباء في الاحتراز عن الوباء". وحقّقه الراحل محمّد بن عبد الكريم وصدرت طبعتُه الأولى عن "الشركة الوطنية للنشر والتوزيع" في الجزائر سنة 1968.
حمدان خوجة هو إحدى الشخصيات البارزة في الجزائر في النّصف الأول من القرن التاسع عشر. وُلد في الجزائر في حدود سنة 1775م. كان مُثقّفاً من طراز رفيع، إذ تعدّدت مصادر ثقافته وتنوّعت بين دينية كالقرآن والسنّة النبوية وعلم الأصول والفروع الفقهية، ودنيوية كالمنطق والفلسفة والتاريخ والسياسة والطّبّ. كما كان له حظّ من الاطلاع على الشرائع السماوية والقوانين الوضعية، إضافة إلى معرفته باللغتين التركية والفرنسية، فضلاً عن إتقانه للغة العربية بطبيعة الحال، وهو ما أهّله للقيام بالوظائف التي تولاّها في الديوان قبل الغزو الفرنسي، ومواجهته الشرسة لقادته وتصدّيه لهم بعده لتنكّرهم لتعهداتهم الموثّقة في نصّ الاتفاق الذي سُلّمت بموجبه مدينة الجزائر ووقّعه عن الجانب الفرنسي قائد الحملة دي بورمون نفسه.
عاش تجربة الحجر الصحّي في إسبانيا وإيطاليا وفرنسا
وكانت لخوجة مساعٍ كثيرة بذلها لدى المسؤولين الفرنسيّين في باريس، وكان من نتائجها إرسال لجنة إلى الجزائر سنة 1833 للتحقيق في التجاوزات المخلّة ببنود الاتفاق المذكور.
كان محبّاً للأسفار التي قادته إلى بعض بلاد الشّرق كإسطنبول، والغرب كإيطاليا وفرنسا وإسبانيا... وهو ما زاد في تعميق ثقافته وصقل مواهبه. أورثته هذه الأسفار الإعجاب بمدنية الغرب والإشادة بحضارته كما صرّح هو نفسه في كتابه "المرآة" قائلاً: "عشت في أوروبا وتذوّقت ثمرة مدنيتها وأنا واحد من المُعجبين بالسياسة المُتّبعة في كثير من الدول الأوروبية".
وهذا الإعجاب هو سبب افتتانه بالحجْر الصحّي الذي يُسمّيه الغربيون الكرنتينة (la quarantain) وتأليفه رسالة في الموضوع، لنجاعته في حصار الوباء والحدِّ من انتشاره، ومن ثمّ دعوته إلى تبنّيه، حتى أنه اقترح على المراجع العليا في الدولة العثمانية تحديدَ أماكن معيّنة في المدن الواقعة على حدود الدولة برية كانت أم بحرية، وأن يُبنى مثل ذلك في إسطنبول على مدخل البحرين، مُذكّراً في هذا الصّدد أنّه خضع هو شخصياً للكرنتينة في إسبانيا مرّتين، ومرة في الغورنة-ليفورنة في إيطاليا، ومرّة في مرسيليا.
راح حمدان خوجة يحشد كلّ قدراته لإثبات أنّ الحجر الصحّي لا يتعارض مع الدين الإسلامي وتشريعاته، بل يذهب إلى أبعد من ذلك في طمأنة الحَذِرين والمتعصّبين، قائلاً: "لا بأس أن يُستعانَ برأي الفرنج إذا ما اقتضى الحال ذلك في هذا الأمر، إذ قد تمرّنوا في كيفية الاحتراز، وقطع أثر الوباء، ولا نقول إنّهم سبقوا إلى أصله لِما ورد من احتراز الصّحابة، فمَن بعدهم". ويضيف: "لكشف حقيقة ما يستعمله الفرنج لمن يقف على رسالتنا حتّى لا يتوهّم من لفظ الكرنتينة أنها أمر غريب يصادم أصول ديننا وحتّى يتحقّق أنه احتراز عن ورود من فيه شائبة مرض من الوباء وإنّ فيه احتياط... وكلّ ما ذكرناه من تصرّفاتهم ليس فيه ما يُكرَهُ شرعاً ولا طبعاً، سوى عدم احترامهم للأموات"، ويقصد بالعبارة الأخيرة، في ما شرحه، ما رآه من كيفية تخلّصهم من جثث ضحايا الوباء.
أخرج حمدان خوجة كتابه هذا "إتحاف المنصفين والأدباء في الاحتراز عن الوباء" سنة 1836، سنوات قليلة قبل رحيله في إسطنبول (1839)، وأهداه للسلطان العثماني حينها محمود الثاني.
وقد دار الكتاب حول ثلاثة أفكار أساسية؛ هي: أسباب الوباء ودواعي انتشاره، وطرق علاجه وكيفية الاحتماء منه، ومهاجمة المتعصِّبين خصوصاً من الفقهاء الذين يُكفِّرون كلّ من أخذ أو دعا إلى الأخذ بأسباب تقدُّم الغربيين، مُذكِّراً في كلّ مرّة بضرورة مراعاة ألاّ يتناقض هذا الأخذ مع أوامر الدين الإسلامي ونواهيه. مُوضِّحاً أنّ "مبنى إنكار كلّ ما نُسِب إلى الإفرنج إنما مبناه الجهل والتعصُّب، فكما نقبل كلّ ما ثبتَ بتجاربهم في الطبّ بالإجماع، ينبغي أن نقبل كلَّ ما ثبت عنهم، وتحقّق في غير ما لم يُناقض قواعد ديننا".
تحدّث عن نجاعة الحجر ودعا الدولة العثمانية إلى تبنّيه
يتألّف الكتاب من مقدّمة ضمّنها تسع مقالات أو مبادئ أو قواعد مسلّمة –كما سمّاها- ينبغي التنبيه إليها، وثلاثة أبواب. ساق في الأول "ما ورد من الأحاديث والآثار وأقوال العلماء في إباحة الفرار من الضّرر أو من خصوص الوباء وتحريمه وكراهيته"، وخصّص الثاني لـ"الاستدلال على جواز الاحتماء والاحتراز". أمّا الثالث فأفرده لـ"حكاية ترتيب الاحتماء الذي التزمه الفرنج وسمّوه كرنتينة وما هو؟ وهل يصادم قواعد ديننا أم لا؟"، وفيه شرح خطوات الحجر لدى الغربيّين وتفاصيله وفلسفتهم في ذلك.
وأنهى الكتاب بخاتمة ضمّنها خمسة مقاصد اعتبرها نتيجة لما ورد في المقالات التسع الني ذكرها في المقدّمة وفي الشروح التي بسطها بالتفصيل في ما تلاها. مقاصد هي في حقيقتها توصيات واقتراحات في الأربعة الأولى منها، وردّ في الخامسة على رسالة أشار إلى سماعه عنها دون الاطّلاع عليها ولا معرفة باسم مؤلِّفها، الذي يُصرِّح فيها بكُفر من احترز على قاعدة الكرنتينة من الوباء، مُفنِّداً هذا التصريح بأدلّة وبراهين نقلية وعقلية بالطريقة نفسها التي اتّبعها في أبواب الكتاب الثلاثة.
وقد اعتمد حمدان خوجة في كتابه هذا منهجاً قائماً على عرض مادّته وبسطها والحِجاج والبرهنة القائمة على الاستدلال بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية وآثار الصحابة وأقوال العلماء واجتهاداتهم.
* كاتب وأكاديمي من الجزائر