حل الحركات "الإسلامية" ..هل هو الحل؟

18 ديسمبر 2014

هل حل الحركات "الإسلامية" في صالح الإسلام؟ (Getty)

+ الخط -

الأزمة العميقة التي تمر بالحركات "الإسلامية" اليوم، أكثر تعقيداً من أن تحلها عمليات المراجعة الذاتية، التي نقرأ أو نسمع عنها هنا وهناك، لأسباب كثيرة، ليس أقلها أن من يقومون بالمراجعة هم أنفسهم السبب الرئيس للمشكلة، ولا يمكن أن تكون جزءاً من المشكلة، وجزءاً من الحل، أو أنت من تضع الحل. هذا في العموم، وما يقوله المنطق، فضلاً عن وجود جملة أسباب تعيد طرح مسألة جذرية، تتعلق بجدوى وجود حركات تحمل صفة "الإسلامية"، وتمارس العمل السياسي، على النحو الذي نراه في غير بلد عربي.

إن لحمل صفة "إسلامي" مخاطر أكبر مما تخيل مَنْ ربط "الإسلام"، بعمومه، بحركات أرضية، ليس لها شيء من قداسة الدين، المرتبط أصلاً بالسماء. بمعنى آخر، ليس من حق أحد من المسلمين أن يدّعي أنه "إسلامي"، محتكراً هذه الصفة، وملقياً ظلالاً من القداسة والهيبة على حركته، بوصفه ممثلاً للإسلام، ليصبح أي نقد، أو إساءة توجه له، وكأنها إساءة للإسلام، مع العلم أن شأنه شأن أي عامل آخر في الحقل العام، يعمل بقوانين المصالح والتنافس التي تنطبق عليه، كما تنطبق على غيره، وليس له أفضلية على أحد، كونه أضفى على نفسه صفة "الإسلامي". إضافة إلى أن مثل هذا الربط يلقي في روع العامة، والخاصة أيضاً، أن أي إخفاق لهذه الحركة "الإسلامية" أو تلك، هو إخفاق للإسلام نفسه ديناً سماوياً، وهذا منزلق خطير، وفتنة لا حدود لها، تهدد صورة الإسلام، وتضع من قيمته ديناً لمليار ونصف المليار من البشر!

وهنا، أستذكر بعض ما سببته مؤسساتٌ خدمية تحمل صفة "الإسلامي"، كالمستشفيات والمدارس وبيوت الاستثمار المالي، وكيف ألحقت أذىً بالإسلام في كل إخفاق، أو فساد، أو تعثر أصابها، باعتبارها مؤسسات "سماوية"، منزهة عن الزلل، ولها مسحة من قداسة الدين، وهي ليست كذلك، حيث يعتبر العقل الجمعي، بمجمله، أن صفة "الإسلامي" التي تحملها تضعها في مرتبة تقارب مرتبة الدين الإسلامي نفسه. ومن هنا، ارتبط أي إخفاق أو فساد في عملها وكأنه إخفاق للدين، وقد انسحبت هذه المخاطر على الحركات السياسية التي حملت هذه الصفة، ودفع الإسلام والمسلمون ثمناً باهظاً جراء إخفاق "الإسلاميين"، ومسّ هذا الثمن حياة المسلمين، وغيرهم في البلاد الإسلامية، حتى قيل إنه ليس من حق أحد أن يرتكب خطايا تؤثر على حياة المسلمين كلهم، وتُدفّعهم ثمن اجتهاداتٍ لم يُستَفْتَ عليها من عموم المسلمين، ولم يُؤخذ رأيهم فيها، وليس لهم شأن بها أصلاً!

ويمكن للمرء، هنا، أن يسوق أمثلة كثيرة، دفع فيها عموم الجمهور المسلم ثمن أخطاء لحركاتٍ تحمل صفة "الإسلامية"، وعوقب المسلمون جرّاءها، وهم ليس لهم من الأمر شيء، بل لحق بالدين نفسه ما لحق من تشويه واستهداف، بسبب هؤلاء، بوصفهم ممثلين للإسلام، وناطقين باسم السماء، وهم ليسوا كذلك، وتتساوى في ذلك الحركات التي تعمل بالسياسة والعمل السلمي، وتلك التي أضافت إلى نفسها الصفة "الجهادية"، ولو قيض لباحث أن يحصر الأذى الذي ألحقته هذه الحركات بصورة الإسلام والمسلمين، لأعياه البحث، واستعصى عليه الأمر.

إن ما نحتاجه، اليوم، ليس مراجعة عمل الحركات "الإسلامية"، سياسية كانت أو "جهادية"، بل طرح جدوى وجود هذه الحركات بهذه الصفة، أصلاً، إنْ لجهة المصلحة التي تحققها للمجتمع بعمومه، أو لجهة حقها في استعمال هذه "العلامة"، حق "انتفاع حصري" لها، يحرم الآخرين منها، أو يكاد يخرجهم من الملة كلها، كما رأينا في حال حركات "جهادية" تدعو عموم المسلمين لمبايعة مشايخها، بوصفهم "خلفاء" أو أولياء أمور المسلمين، وينطبق هذا على أنظمة حاكمة تقدم نفسها بهذه الصفة، وتعتبر أن الخروجَ على "ولي الأمر" خروجٌ من الدين، ومروقٌ من تعاليمه!

واستذكر هنا نصيحة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، لإخوان مصر بحل تنظيم الإخوان المسلمين، قبل أن يحدث ما حدث بالجماعة، من محن وكوارث، لم تنلها هي فقط، بل امتدت إلى عموم أهل مصر، ولكل ثورات الربيع العربي، بل إنها بعثت الحياة في الثورة المضادة، وأعادت، على نحو أو آخر، عقارب ساعة التغيير سنوات طويلة جداً إلى الوراء، وفتحت المجال لعودة أنظمة الفلول والمخلوعين والهاربين من رموز الديكتاتورية العربية إلى صدارة الفعل السياسي والأمني، ولنا أن نتخيل لو تم تنفيذ نصيحة أردوغان، ماذا كان سيحصل في بوصلة الأحداث، وإلى أين كانت ستتجه!

إننا أمام قضية كبرى، لا يتسع لها مقال أو بحث. إن المصير البائس الذي آلت إليه ثورات الربيع العربي أحد نتائج هذه المعضلة الرهيبة، التي تحتاج جرأة في الطرح، وقوة قلب استثنائية، لأن من يدعو إلى مجرد التفكير فيها، سيُتهم بأنه جزء من الثورة المضادة، وليس مستبعداً أن يُتّهم في دينه، وقد يخرجه بعض صغار العقول من الملة، نتيجة "القداسة" التي لوّن العاملون في حقل العمل السياسي والجهادي "الإسلامي" حركاتهم بها، فاكتسبوا نوعاً من العصمة، أو قل أكسبوا أنفسهم هذه العصمة، ورفعتهم إلى مرتبة فوق مرتبة العمل البشري، القابل للنقد والتخطيء، بل ربما التجريم أحياناً.

ترى من يعلق الجرس، ويقول لكل هؤلاء: دعوا الإسلام وشأنه، ولا تنتحلوا صفة "حصريّةِ" تمثيله، شأنكم شأن أي ديكتاتور حاكم، ينطق باسم الإسلام، وسمُّوا أنفسكم أي اسم تشاءونه. ولكن، لا تقولوا عن أنفسكم إنكم "إسلاميون"؟

من يقول لهؤلاء كلهم، بلا استثناء، إن من حقهم أن يعملوا بالسياسة على النحو الذي يريدونه، وبأي "طلاء" يحبونه، ولكن، ليس بطلاء "الإسلام" و"الإسلامية"، فهذا الدين ليس لكم وحدكم، وليس من حقكم احتكار النطق باسمه، أو ادعاء تمثيله؟ من يجرؤ أن يقول، وبالفم المليء، أن حل الحركات "الإسلامية" كلها هو في صالح الإسلام والأمة ومشروعها النهضوي، ليس من باب مناهضة الإسلام، بل حفاظاً عليه من التدنيس الذي لحق به، جرّاء امتهان اسمه، وجعله "ماركة" ترويجية لمنتجات فاسدة، أو هي على الأقل جدلية، وتقع في دائرة "الاجتهاد" الذي يحتمل الصواب والخطأ، وليس من حق أصحابها الاختباء تحت عباءة الإسلام، ديناً له صفة الصواب المطلق، هروباً من المساءلة، وحتى التجريم؟

مثل هذا الكلام لا يتهم نيات أصحاب هذا الاجتهاد الذين رغبوا بالقيام بعملية "إحياء ديني" مباركة، يؤجرون عليها ولا شك، لكنه محاولة متواضعة لفتح باب الجدل، حول صوابية "انتحال" صفة "الإسلامية"، وجعل الإسلام رايةً ولوناً لحركات وجماعات سياسية و"جهادية" ومؤسسات وشركات تجارية بحتة، تنطبق عليها قوانين الأرض، وتعاني مما يعاني منه الآخرون من فساد وخراب وأمراض، وليس لها أي عصمة أو حصانة، فقط لأنها قرنت نفسها بالإسلام!

ربما يسارع بعضهم إلى رمي كل من يطرح هذه الرؤية بأنه جزء من عملية تآمرية، تستهدف إخراج الحركات "الإسلامية" عن القانون، ووصمها بـ"الإرهاب"، أو أنه يدعم وجهة النظر الداعية إلى حظر الأحزاب الدينية، ودسترة هذا الأمر في غير بلد عربي، أو مسلم، لكن التجربة التي مرت بها الأمة، تقتضي جرأة في طرح المسألة جذرياً، بعد الهزة الكبرى التي ضربت منطقتنا، ونتيجة الأخطاء الكبرى التي ارتكبتها، وترتكبها، الحركات والجماعات التي تحمل صفة "الإسلامية"، وتنسحب نتائجها على كل ألوان الطيف السياسي والمجتمعي بلا استثناء، وتلحق الأذى بالناس كافة، داعمين هذه الحركات أو مناهضين لها، وقد آن أوان مواجهة الذات ونقدها، ومساءلتها، كي لا يستمر مسلسل الإخفاقات الكبرى، ويُجهَض كل أمل، كلما لاح في الأفق ضوء نهار.