03 اغسطس 2022
حلب مجزرة يرتكبها "العظماء"
أطفال ونساء وشيوخ يغادرون، لا يعرفون إلى أين! مشرّدون، مشوّهون ويتامى يتركون بيوتهم وممتلكاتهم وأرضهم وأمكنتهم، يخرجون من المدينة، هائمين على وجوههم. تحولت حلب إلى عنوانٍ لأروع (من الترويع) مجزرة، ولأكبر كارثة إنسانية في التاريخ الحديث. مارس جند بشار و"مغول إيران" من مليشيات لبنانية وعراقية وأفغانية وباكستانية جميع أشكال الفظائع البشرية من قتلٍ وذبح وتصفيات وسحل وإعدام واغتصاب. الصور والمشاهد جابت العالم، وظهرت على معظم الشاشات، ودخلت إلى كل بيت وأصابت المشاعر. سربرينيتشا 1993 وغروزني 1999 وحلب 2016... اللافت أن مرتكب الثانية والثالثة هو نفسه فلاديمير بوتين.
كتب رجل على باب مركز خيري، كان يديره قبل أن يرحل عنه: "اِنتبه.. لا تخرب.. هنا يوجد أشياء سيتفيد منها أطفالك. 15-12-2016 حلب/ سورية (حرية)". حتى عندما كان هذا الرجل يغادر تاركاً أعزّ ما لديه كان يفكّر بأطفال أعدائه الآتين ليحتلّوا منزله ومركزه. عبارة أخرى أكثر تعبيراً على أحد جدران أبنية المدينة: "إلى من شاركتني الحصار، بحبك". إضافة إلى عبارة "راجعين يا هوا"(هوى) من أغنية فيروز. وكانت لافتة أيضاً جملة كتب فيها جزء من "القصيدة المتوحشة" للشاعر نزار قباني: "أحبيني بعيداً عن بلاد القهر والكبت، بعيداً عن مدينتنا التي شبعت من الموت". الحب على الرغم من القصف والتجويع والحصار.
المشهد الذي يتكرّر منذ سنوات تحت عنوان "المصالحة"، وتحديداً بعد تدخل "الدب الروسي"، هو مشهد الباصات الخضراء بعد كل جولةٍ جهنميةٍ من القصف المدمر الذي يتبعه وقف لإطلاق النار. باصات تنقل سكّان المدن والقرى التي تمت محاصرتها وتجويع أهلها بعيداً عن ديارها. فمن قبل، كانت داريا وقدسيا، والهامة والتل، ثم الفوعة وكفريا.. واليوم حلب. تغيير ديموغرافي تحت أنظار "العالم الحر" يستهدف تعديل التركيبة السكانية جذرياً، تمهيدا لـ"سورية المفيدة" على قياس بشار، فيما تملأ الفراغ مليشيات شيعية استحضرتها إيران خصيصاً من أفغانستان وباكستان.
لم يستطع جميع النازحين الوصول إلى المناطق الغربية من المدينة التابعة للنظام. تحدّثت أصواتٌ معارضة إن بعضهم تمّ تصفيته على حواجز قوات الأسد، أو تم نقلهم إلى ما تشبه معسكرات الاعتقال. نساء سوريات فضلن الانتحار هرباً من أن يغتصبهن أفراد من الجيش السوري وحلفائه. لكنّ هذه المعلومات لم تنفرد بها مصادر المعارضة وحدها، إذ أعرب الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، عن قلقه بسبب عشرات الإعدامات الميدانية التي تنفّذها قوات الأسد، بالإضافة إلى مئات المفقودين.
تحدّث الجميع عن نقطة التحول في الحرب السورية، حين استخدم نظام الأسد السلاح الكيميائي ضد شعبه، قبل أكثر من ثلاث سنوات، في أغسطس/ آب 2013، قاتلاً مئات من المدنيين. حينها خرق الأسد "الخط الأحمر" الذي كان الرئيس الأميركي، باراك أوباما، نفسه، قد وضعه قبل سنة، وحظر استخدام هذا السلاح، فقرّر الرئيس الأميركي توجيه ضربةٍ إلى آلة النظام الحربية، بعد أن كان قد تراجع عن تكرار مطالبته الأسد بالرحيل خلال أولى سنتي الحرب. دخل عندها بوتين على خط الوساطة، عارضا تفكيك سلاح بشار الكيماوي وتسليمه. قبل أوباما العرض، وتراجع عن قراره، ودخلت الحرب منعطفاً جديداً. أطلق أوباما عملياً يدي الأسد وبوتين معلناً، بطريقةٍ غير مباشرة، أنّ العالم الذي كانت فيه الولايات المتحدة تتحرّك لإيقاف المجازر بحق المدنيين، كما حدث في كوسوفو، قد تغيّر إلى الأبد. فراحت واشنطن تنشغل بإدانة أداة القتل، لا القاتل نفسه، بـ "داعش" لا بمن اخترع "داعش"!
بعدها حاولت واشنطن تسويق حلّ سياسي على أساس المرحلة الانتقالية التي ينص عليها قرار مجلس الأمن الدولي 2254، وتظاهرت موسكو بقبول هذا الحل، لكنها ظلت تزوّد النظام بالأسلحة الفتّاكة، وتمهد لتدخلها العسكري المباشر، في سبتمبر/ أيلول 2015 بعد أن اطمأنت لانكفاء واشنطن. سبقه زيارة قائد "فيلق القدس في الحرس الثوري" اللواء قاسم سليماني إلى موسكو لبحث إمكانية مساندة الروس، بعدما كانت طهران ودمشق قد أنهكتا عسكرياً. تدخلت روسيا في اللحظة التي كان يشرف فيها نظام الأسد على الانهيار.
وفيما راحت موسكو تمارس تكتيك القضم التدريجي، على وقع جولات من القصف الجوي، يتبعها وقف لإطلاق النار ومفاوضات مزعومة، بغرض إحراج المعارضة، وقدرتها على فرض شروطها، كانت واشنطن تغضّ الطرف عن انتهاكاتٍ كثيرة يرتكبها القصف الروسي العشوائي للمناطق السكنية. في حين كان وزير الخارجية، جون كيري، أشبه بموقع المتلقّي لتعليمات نظيره الروسي، سيرغي لافروف، فكان يملي على المعارضة أفكار الكرملين، ويحمّلها مسؤولية عدم الالتزام بمسار المفاوضات، إلى درجة أنه اقترح عليها القبول بانتخابات رئاسية، يشارك فيها الأسد.
قيل إن أوباما كان يراهن على غرق روسيا في المستنقع نفسه الذي غرق فيه الاتحاد السوفياتي في أفغانستان. لكن، من دون إعطاء المعارضة صواريخ (أميركية) مضادة للطيران، يصعب فهم كيف أمكن للرئيس الأميركي تصور أنّ الروس سيغرقون في أوحال الحرب السورية. ويبدو أن أوباما هو الذي "غرق" فعلياً بجائزة نوبل للسلام التي فاز بها سنة 2009، فكان شديد التلكؤ بالتدخل، لا بل الانسحاب من أكثر نقطةٍ عسكريةٍ حرجة حول العالم، حفاظاً على صورته.
يغادر أوباما البيت الأبيض، بعد شهر تاركاً وراءه إرثاً ثقيلاً، اسمه مأساة الشعب السوري، بدأت دمويةً مع نهاية عهده الأول، وازدادت كارثيّةً مع نهاية عهده الثاني. في هذا الوقت، سيسلّم أوباما منصبه لرئيس مقبل هاوٍ في السياسة، وشعبوي محبّ للأضواء، سبق أن قال في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي إنّ حلب سقطت، تفادياً لاتخاذ أي خطوةٍ قد تغضب صديقه الرئيس الروسي.
ونقلت الكاتبة روبن رايت في مجلة نيويوركر الأميركية عن مسؤول أميركي قوله إنّه "من دون انتقال سياسي داخل سورية لن تنتهي الحرب، ومن دون انتقال سياسي، لا توجد طريقة يمكننا أن ننتهي بها من داعش". لكنّ السؤال الأبرز يكمن في هوية الرئيس الذي قد يسعى إلى الدفع بهذا الاتجاه. أهو أوباما الراحل الذي أضعف المعارضة إلى حدّ أضعف معها أي معنىً للحديث عن المرحلة الانتقالية؟ أم هو دونالد ترامب الذي وصفته مجلة إيكونوميست البريطانية بأنه "رجل عقد الصفقات"، لا رجل نشر قيم الحرية والدفاع عن حقوق الإنسان؟
كتب رجل على باب مركز خيري، كان يديره قبل أن يرحل عنه: "اِنتبه.. لا تخرب.. هنا يوجد أشياء سيتفيد منها أطفالك. 15-12-2016 حلب/ سورية (حرية)". حتى عندما كان هذا الرجل يغادر تاركاً أعزّ ما لديه كان يفكّر بأطفال أعدائه الآتين ليحتلّوا منزله ومركزه. عبارة أخرى أكثر تعبيراً على أحد جدران أبنية المدينة: "إلى من شاركتني الحصار، بحبك". إضافة إلى عبارة "راجعين يا هوا"(هوى) من أغنية فيروز. وكانت لافتة أيضاً جملة كتب فيها جزء من "القصيدة المتوحشة" للشاعر نزار قباني: "أحبيني بعيداً عن بلاد القهر والكبت، بعيداً عن مدينتنا التي شبعت من الموت". الحب على الرغم من القصف والتجويع والحصار.
المشهد الذي يتكرّر منذ سنوات تحت عنوان "المصالحة"، وتحديداً بعد تدخل "الدب الروسي"، هو مشهد الباصات الخضراء بعد كل جولةٍ جهنميةٍ من القصف المدمر الذي يتبعه وقف لإطلاق النار. باصات تنقل سكّان المدن والقرى التي تمت محاصرتها وتجويع أهلها بعيداً عن ديارها. فمن قبل، كانت داريا وقدسيا، والهامة والتل، ثم الفوعة وكفريا.. واليوم حلب. تغيير ديموغرافي تحت أنظار "العالم الحر" يستهدف تعديل التركيبة السكانية جذرياً، تمهيدا لـ"سورية المفيدة" على قياس بشار، فيما تملأ الفراغ مليشيات شيعية استحضرتها إيران خصيصاً من أفغانستان وباكستان.
لم يستطع جميع النازحين الوصول إلى المناطق الغربية من المدينة التابعة للنظام. تحدّثت أصواتٌ معارضة إن بعضهم تمّ تصفيته على حواجز قوات الأسد، أو تم نقلهم إلى ما تشبه معسكرات الاعتقال. نساء سوريات فضلن الانتحار هرباً من أن يغتصبهن أفراد من الجيش السوري وحلفائه. لكنّ هذه المعلومات لم تنفرد بها مصادر المعارضة وحدها، إذ أعرب الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، عن قلقه بسبب عشرات الإعدامات الميدانية التي تنفّذها قوات الأسد، بالإضافة إلى مئات المفقودين.
تحدّث الجميع عن نقطة التحول في الحرب السورية، حين استخدم نظام الأسد السلاح الكيميائي ضد شعبه، قبل أكثر من ثلاث سنوات، في أغسطس/ آب 2013، قاتلاً مئات من المدنيين. حينها خرق الأسد "الخط الأحمر" الذي كان الرئيس الأميركي، باراك أوباما، نفسه، قد وضعه قبل سنة، وحظر استخدام هذا السلاح، فقرّر الرئيس الأميركي توجيه ضربةٍ إلى آلة النظام الحربية، بعد أن كان قد تراجع عن تكرار مطالبته الأسد بالرحيل خلال أولى سنتي الحرب. دخل عندها بوتين على خط الوساطة، عارضا تفكيك سلاح بشار الكيماوي وتسليمه. قبل أوباما العرض، وتراجع عن قراره، ودخلت الحرب منعطفاً جديداً. أطلق أوباما عملياً يدي الأسد وبوتين معلناً، بطريقةٍ غير مباشرة، أنّ العالم الذي كانت فيه الولايات المتحدة تتحرّك لإيقاف المجازر بحق المدنيين، كما حدث في كوسوفو، قد تغيّر إلى الأبد. فراحت واشنطن تنشغل بإدانة أداة القتل، لا القاتل نفسه، بـ "داعش" لا بمن اخترع "داعش"!
بعدها حاولت واشنطن تسويق حلّ سياسي على أساس المرحلة الانتقالية التي ينص عليها قرار مجلس الأمن الدولي 2254، وتظاهرت موسكو بقبول هذا الحل، لكنها ظلت تزوّد النظام بالأسلحة الفتّاكة، وتمهد لتدخلها العسكري المباشر، في سبتمبر/ أيلول 2015 بعد أن اطمأنت لانكفاء واشنطن. سبقه زيارة قائد "فيلق القدس في الحرس الثوري" اللواء قاسم سليماني إلى موسكو لبحث إمكانية مساندة الروس، بعدما كانت طهران ودمشق قد أنهكتا عسكرياً. تدخلت روسيا في اللحظة التي كان يشرف فيها نظام الأسد على الانهيار.
وفيما راحت موسكو تمارس تكتيك القضم التدريجي، على وقع جولات من القصف الجوي، يتبعها وقف لإطلاق النار ومفاوضات مزعومة، بغرض إحراج المعارضة، وقدرتها على فرض شروطها، كانت واشنطن تغضّ الطرف عن انتهاكاتٍ كثيرة يرتكبها القصف الروسي العشوائي للمناطق السكنية. في حين كان وزير الخارجية، جون كيري، أشبه بموقع المتلقّي لتعليمات نظيره الروسي، سيرغي لافروف، فكان يملي على المعارضة أفكار الكرملين، ويحمّلها مسؤولية عدم الالتزام بمسار المفاوضات، إلى درجة أنه اقترح عليها القبول بانتخابات رئاسية، يشارك فيها الأسد.
قيل إن أوباما كان يراهن على غرق روسيا في المستنقع نفسه الذي غرق فيه الاتحاد السوفياتي في أفغانستان. لكن، من دون إعطاء المعارضة صواريخ (أميركية) مضادة للطيران، يصعب فهم كيف أمكن للرئيس الأميركي تصور أنّ الروس سيغرقون في أوحال الحرب السورية. ويبدو أن أوباما هو الذي "غرق" فعلياً بجائزة نوبل للسلام التي فاز بها سنة 2009، فكان شديد التلكؤ بالتدخل، لا بل الانسحاب من أكثر نقطةٍ عسكريةٍ حرجة حول العالم، حفاظاً على صورته.
يغادر أوباما البيت الأبيض، بعد شهر تاركاً وراءه إرثاً ثقيلاً، اسمه مأساة الشعب السوري، بدأت دمويةً مع نهاية عهده الأول، وازدادت كارثيّةً مع نهاية عهده الثاني. في هذا الوقت، سيسلّم أوباما منصبه لرئيس مقبل هاوٍ في السياسة، وشعبوي محبّ للأضواء، سبق أن قال في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي إنّ حلب سقطت، تفادياً لاتخاذ أي خطوةٍ قد تغضب صديقه الرئيس الروسي.
ونقلت الكاتبة روبن رايت في مجلة نيويوركر الأميركية عن مسؤول أميركي قوله إنّه "من دون انتقال سياسي داخل سورية لن تنتهي الحرب، ومن دون انتقال سياسي، لا توجد طريقة يمكننا أن ننتهي بها من داعش". لكنّ السؤال الأبرز يكمن في هوية الرئيس الذي قد يسعى إلى الدفع بهذا الاتجاه. أهو أوباما الراحل الذي أضعف المعارضة إلى حدّ أضعف معها أي معنىً للحديث عن المرحلة الانتقالية؟ أم هو دونالد ترامب الذي وصفته مجلة إيكونوميست البريطانية بأنه "رجل عقد الصفقات"، لا رجل نشر قيم الحرية والدفاع عن حقوق الإنسان؟