حكواتي: فوائد حرب إسرائيل النفسية علينا في غزّة

16 يوليو 2014
إسرائيل تحاول نشر الخوف بهدم المنازل(الصور لسعيد خطيب AFP/Getty)
+ الخط -
تشتكي جارتي الشابة، على الدوام، من تصرّفات حماتها العجوز. وكنت دائماً أواسيها بعبارات مثل: اعتبريها مثل أمّك، والنساء عندما يتقدّمن في السنّ يصبحن مثل الأطفال، وعليك أن تحايليها كطفلة صغيرة. 

تربطني بجارتي الشابة علاقة هادئة. إذ يقابل منزلها نافذة مطبخي. فتسكنني في كثير من الأحيان شكواها من حماتها، خصوصاً إصرار الأخيرة على الاستئثار بجهاز الهاتف. فهي لا تسمح لأيّ مخلوق بالاقتراب من الجهاز الموضوع فوق خزانة التلفزيون. فإذا ما رنّ تصيح "لا أحد يقترب"! وتركض كالبطريق: تلتقط السماعة وتردّ متوقعةً أنّ المتّصل على الطرف الآخر يريد محادثتها، علماً أنّ ذلك لا يحدث إلا نادراً. 

تتلقّى العجوز مكالمات من ابنتها الوحيدة التي تزوّجت وتعيش في دبي. أما الاتصالات الأخرى الواردة فتكون موجّهة إلى أحد أفراد الأسرة، مثل ابنها أو زوجته، أو حتّى بناته اللواتي يدرسنَ في مراحل تعليمية مختلفة ويتلقّينَ مكالمات من صديقاتهنّ وزميلاتهنّ في المدرسة. 

أعربت إحدى الحفيدات مراراً عن غضبها من سلوك الجدّة الُمحرِج وطريقة استجوابها المتّصلات اللواتي أطلقنَ على الجدّة اسم "مدير المخابرات" لأنّها تصرّ على معرفة كل شيء، من اسم المتصل إلى سبب الاتصال، وتتجاوز ذلك الى السؤال عن أمور شخصية دقيقة تخصّ شخصية المتصل.

رغم عدم قناعتي بما قلتُ، طلبتُ من جارتي وبناتها الصبر، وقلت لها: سيأتي يوم وستكره حماتك التليفون"... ولم أكن أعرف أنّ عبارتي تلك هي بمثابة النبوءة، لأنّني كنتُ أستمع إلى صوت العجوز من مطبخي، وهي تردّ على الهاتف لاهثةً، وغالباً ما  تتأخّر في الردّ فتخرج مسرعة من الحمام أو تنتفض من نومها فزعةً لتلبّي نداء الهاتف.

 في أيام العدوان الأولى على غزّة دأبت استخبارات الاحتلال الصهيوني على استخدام سياسة جديدة ضمن حربها النفسية على أهل القطاع. فهي تغرق هواتف المواطنين، بطريقة عشوائية، باتّصال متكرّر تردّده أسطوانة إلكترونية، تبثّ تحذيراً إلى المواطنين بضرورة إخلاء منازلهم تمهيداً لقصفها وهدمها. 

وغالباً ما تكون هذه الاتصالات كاذبة، ما أصاب المواطنين في غزّة بحالة من الإرباك والتوتر والحيرة. ومع تكرار الحادثة، اجتمع المواطنون واتفقوا أن يكونوا دروعاً بشرية في مواجهة سياسة الاحتلال التي تستهدف هدم المنازل التي قضوا عمراً ودهراً في بنائها والمحافظة عليها.

مرّت أشهر قبل أن تغيّر استخبارات الاحتلال الصهيوني خطّتها. فقد بدأت تستخدم تحذيراً آخر تبثّه عبر هواتف المواطنين، وهو الطلب منهم "عدم مساعدة المقاومة الفلسطينية والضغط عليها للقبول بهدنة حفظاً لدماء الأبرياء". وبالطبع فإنّ عدواً يتملّكه الخوف على نفسه وممتلكاته لن يكون حريصاً على دماء الفلسطينيين التي يريقها كلّ لحظة. 

ليل أمس، وقبل موعد الافطار بساعة، كان هاتف جارتي يرنّ كالعادة. فجفّفت الحماة العجوز  يديها على عجل وركضت نحو الهاتف. وجاءها صوت رسالة صوتية مسجّلة يتحدّث بعربية ركيكة. ومجرّد أن سمعت الكلمات الأولى من التهديد وهي "على سكّان غزة..."، صرخت بأعلى صوتها وألقت بالسمّاعة بعيداً، وبدأت تصرخ بهستيرية: رح يهدموا البيت، رح يهدموا البيت. 

اجتمعت العائلة والجيران حول العجوز النائحة في محاولةٍ لتهدئتها وطمأنتها بأنّ الأمر لا يشكّل خطراً وبأنّ الاتصال بلاغ مسجّل وكاذب. لكن عبثاً. لم تقتنع الحماة العجوز وظلّت تبكي وهي منهارة عصبياً. 

بعد ساعات من حلول موعد الإفطار، وفيما كنتُ أنظّف مطبخي، سمعت صوت جرس هاتف الجيران يرنّ، وسمعت الحماة العجوز تردّد بصوتٍ يرتجف "يا ولاء، روحي يا تيتا ردّي على التليفون". 
المساهمون