حكواتي: جناحان في منتصف ظهري

01 ديسمبر 2014
حكمة ما تتفتّح عبر هذين الجناحين (أم. فليرمان Getty)
+ الخط -

 
ما سأكتبه الآن حقيقي جداً، وأتمنّى أن يُؤخذ على محمل الجدّ، والرجاء الابتعاد عن السخرية والتهكّم. ما سأكتبه هو سرٌّ احتفظت به 27 عاماً. أمّا بَوْحي به الآن فسببه أنّني، مثل البقية هنا، يمكن أن يباغتي الموت في أيّ لحظة، ولا أريد أن يؤرّقني هذا السرّ في قبري أيضاً. 
السر بكلّ بساطة هو أنّني، عندما ولدتني أمي، اكتشف والداي أنّ لديّ جناحين صغيرين في منتصف ظهري. نعم خُلِقتُ بجناحين، لا تستغربوا، وفي إمكانكم أن تسألوا والديّ إن لم تصدّقوا. هذا السرّ لا يعلمه إلا والداي والقابلة التي قامت بتوليد أمي، وجدّتي، التي كانت دائماً تحاول مواساتي بقولها: "لهذين الجناحين حكمة لا يعلمها إلا الله". 
في طفولتي أوصاني والداي دائماً بإخفاء قصة الجناحين عن الناس، مبرّرين ذلك بأنّه في حال علم أحدهم بأمر الجناحين ربما ينتهي بي الأمر في السجن مدى الحياة، أو حتّى الدفن حياً. هذا ما جعلني أقضي طفولتي وأنا أحاول أن أبقي جناحيّ الصغيرين مخبّأين عن عيون الناس. ففي المدرسة مثلاً كنت أرتدي حقيبتي على ظهري بشكل دائم، حتّى في الصف. وإلى الآن ما زلت أتذكّر تلك اللحظة الأكثر رعباً في حياتي، خلال أحد دروس العلوم التي تتحدّث عن الطيور وطبيعة أجنحتها، يومها نظر الأستاذ في عينيّ بشكل مفاجئ، وبدأ يمشي باتجاهي. اعتقدت حينها أنّه اكتشف أمري، وأنّه سيشير إلى أجنحتي كمثال بدلاً من صورة الجناحين التي كان قد علّقها على السبّورة.
كنتُ أنظر في عينيه وأنا أغرق في بركة من العرق، وكانت عيناي تتوسّلان إليه وتقولان له: "أرجوك يا أستاذ لا تفضح أمري.. لا تخبرهم.. أرجوك لا ذنب لي في الأمر، لا ذنب لي يا أستاذ". وكان وقع خطواته على الأرض، وهو يقترب منّي، يتداخل مع دقّات قلبي، ليشكلا إيقاعاً مرعباً، إيقاعاً كان يقرع على طبلة أذني كقرع طبول الحرب. لكنّه ما إن وصل إلى جانبي حتّى تابع طريقه باتجاه المقعد الذي خلفي. كم كنت ساذجاً وغبياً حينها لأنسى أن أستاذنا أحول العينين.
من الأمور التي عانيت منها أيضاً بسبب الجناحين الصغيرين أنّني، طيلة حياتي، لم أرتدِ ملابس صيفية. حتّى في الصيف كنت أرتدي سترة، ما جعلني محطّ سخرية دائماً بالنسبة لأصدقائي. وعندما كنت أذهب إلى البحر كنت أتأمّل الناس وهم يسبحون، أمّا أنا فأكتفي بالجلوس على الشاطئ متمنياً أن يبتلعهم البحر جميعاً، كي أتمكّن من التعرّي وتحقيق حلمي بأن أسبح في البحر. لكنّني كبرت وبقيتْ معانقة البحر مجرّد أمنية.
الجناحان الصغيران كانا سبباً جعل حبيبتي تتخلّى عنّي بعد خمس سنين من الحبّ. كيف لا تتخلّى عنّي وأنا لم أقترب منها طيلة تلك الفترة؟ كيف لا تتخلّى عنّي وقد كنت أتهرّب منها دائماً عندما تقوم بالتلميح إلى موضوع الزواج؟
كلّ ما تمنيته في حياتي أن أستطيع رؤية هذين الجناحين، اللذين منعني موقعهما في منتصف ظهري من تحقيق ذلك. في إحدى المرات حاولت أن أراهما عن طريق المرآة. وضعت المرآة خلفي وأدرت رأسي لأنظر إليهما.. لكنّني فوجئت بأنّني لم أرَ شيئاً. 
اعتقدت للحظة أنّهما اختفيا، فأسرعت فرحاً إلى والديّ، لأبشّرهما بذلك، لكنّني فُجِعتُ حين أخبراني أنّ الجناحين لا يمكن رؤيتهما في المرآة. ومن يومها قرّرت الانعزال عن بقية البشر. بشر لم يُمسَخوا مثلي، ولم يبتلوا بأجنحة.
هكذا عشتُ وحيداً منذ خلقت، كبرتُ لتكبر معي وحدتي. وهكذا أحيا بجناحين صغيرين، أرّقاني طيلة حياتي، دون التمكن من رؤيتهما.
دلالات
المساهمون