حكواتي: إسم أمي أندوشي... ولم تفرك أذني

18 يونيو 2014
الصورة لسالي أنسكوlب / Getty
+ الخط -
في بداية الستينيّات لم يكن مألوفاً ذهاب الاطفال إلى الروضة أو الحضانة. ذلك لأنّ معظم الأمّهات كنّ ربّات بيوت (كتير بحب هالمصطلح ولا أرى فيه أيّ إهانة لنسويّتي). وما كان في "كفاية مصاري لدفع أجرة هالمؤسسات رغم كون أغلبها أهلية تبشيرية مسيحية".

كنّا نسكن في الناصرة داخل شقّة متواضعة بناها أبي فوق "عقد" جدّتي، أمّه الأرملة التي انتقلت من قيساريا إلى الناصرة بعد نكبة 48، بعد ولادة أختي، وكان عمري سنة ونصف السنة فقط، وأخي الأكبر كان عمره 3 سنوات. فلم ترَ أمّي حلاً لإنقاذها من مواجهة 3 أطفال يومياً إلا أن تسجّل أخي الكبير في حضانة "الجرينة" بسوق الناصرة، خصوصاً أنّ مديرتها الستّ هدى الحكيم كانت من أقارب أبي. وبالفعل في اليوم الأوّل من سبتمبر/ايلول 1960 راح أخي جلال الكبير إلى حضانة الستّ حكيم. أما أنا "فبيحكوا الكبار" أنّني قرّرت أنّه عليّ الذهاب إلى الحضانة مثلي مثل أخي. بالطبع أمي اعترضت لصغر سنّي وللزيادة المتوقّعة في المصاريف المادية (لدفع القسط الشهري)، لكنني لم أتنازل وقرّرت الاعتصام (من يوم يومي متمرّدة). فجلست على حافة درج بيتنا أبكي لمدّة 3 أيام... "لحتّى زهقت أمي من جوحي" (بكاء بصوت عالٍ باللهجة الفلسطينية)، وأخذتني معها إلى الستّ هدى الحكيم، التي رفضت استقبالي في البداية. لكن أمي حاولت بكلّ الوسائل إقناعها، خصوصاً لمّا شافت الستّ هدى بتتمايز فيّي وتنقّل نظرها عليّ من فوق إلى تحت ومن تحت إلى فوق وتحاول بكلّ جهدها أن تصدّق أقوال أمي عن استقلاليتي وعن ذهابي إلى الحمام مثل الأطفال الكبار وأنّي بحكي كلّ الحكي، خصوصاً أنّي طول عمري قصيرة القامة. ووقتها يمكن كان طولي لا يتجاوز 40 سم. بعد طول إقناع ومحاولة أمي رشوة المربية بهدية عبارة عن مريولين للمطبخ من شغلها وتطريزها، اقتنعت الستّ هدى، وأنا فرحت جداً والتحقت بالحضانة حيث بدأت بالذهاب يومياً مع أخي مشياً لأنّ الحضانة كانت تبعد نحو 200 متر عن البيت.

أمي كانت مرتاحة لأنّها كانت مشغولة مع أختي الطفلة الحديثة الولادة، ولأنّ لديها فرصة لترتاح من ملاحقتي والردّ على أسئلتي. أما الستّ هدى فبعدما شافت أنّ أمي كانت محقة وما بالغت في وصف استقلاليتي أحبّتني جداً وأحبّت سرعة حفظي المحفوظات قبل أيّ من الأطفال الآخرين، رغم أنّي أصغرهم... إلى أن أتى اليوم الذي سألت المعلمة الأطفال عن أسماء أمهاتهم.

قال أخي الكبير: "إسم أمي إيلين". فما كان منّي إلا أن صحت: "لا لا إسم أمي أندوشي" (وهو اسم الدلع الذي كان ينادي أبي به أمي في لحظاتهما الحميمة). فما كان من أخي إلا أن غضب منّي وضربني (كان صبياً والبكر وأكبر منّي بسنة ونصّ). وأنا ما توقّفت عن ترديد "إسم أمي أندوشي"، فما كان من المربية إلا أن فصلت بيننا وهدّأت من روعنا. لكنّها فور رؤيتها أمي لحظة دخولها ساحة الحضانة لأخذنا إلى البيت بعد نهاية الدوام، سألتها وأمام جميع الأمهات وبعض الآباء: "أم جلال إسمك إيلين أو أندوشي".

ما إن سمعت أمي هذا الكلام حتّى احمّر وجهها واخضّر، وما عرفت تردّ من خجلها وشدّتني من يدي إلى خارج الحضانة وهي تتمتم: "فضحتينا بالسوق يا طويلة اللسان". وما انتظرت حتّى نصل البيت لتمسك أذني وتفركها بشدّة حتّى صار لونها عنابياً. ومن يومها نسيت أنّ إسم أمي أندوشي، لأنّ أبي ما عاد يدلّلها بهذا الإسم أو بأيّ إسم آخر أمامي خوفاً من الفضيحة!
أما الستّ هدى فقد تركتها وقت ما انتقلنا لنسكن في حيفا، وعدت لألتقيها يوم عرسي في كنيسة البشارة بالناصرة. هناك أتت تلبية لدعوة أهلي وأهل زوجي وعندما أتى دورها لتبارك وقفت وقالت لي ولزوجي بأعلى صوتها: "أنتما من تلاميذي وأوّل مرّة التقيتكم كان بحضانة الجرينة عندي من 20 سنة، ولما تغاوشتي (تعاركتي) إنت وأخوكي على إسم إمّك إذا أندوشي أو إيلين وضربك أخوكي، إجا أسعد لنجدتك". ضحكنا أنا وزوجي وضحك جميع المشاركين في حفل الزفاف، إلا أمي التي احمرّ وجهها خجلاً، لكنّها هالمرّة ما فركت أذني عقاباً لي.

المساهمون