حكواتي: أمي تريد قتلي بمسمار

08 أكتوبر 2014
جدار في معرّة النعمان/ سورية (نيكولن أولكرس/Getty)
+ الخط -
منذ سنة تقريباً ﺃﻗﻀﻲ ﻟﻴﻠﻲ بالطريقة نفسها. الفرق ﺍلوحيد بين ﻟﻴﻠﺔ ﻭﺃﺧﺮﻯ غالباً ما يكون ﻓﻲ عدد ﺍﻟﺴﺠائر التي في حوزتي. أجلس ﻓﻲالغرﻓﺔ بعد أن ﺃطفئ النور، ﻭأستمع ﺇﻟﻰ ﺍﻷغاني نفسها منذ سنة، ﻭﺃﺩﺧّﻦ.
ﺃﺩﺧّﻦ فقط. ولكي ﺃﻫﺮﺏ من الوحدة ﻭالملل، ﺃبدﺃ في التخيّل، أتخيّل ﺃﻱ شيء. أحياناً أتخيل أنّي "ﺍﻵﻩ" المعلّقة في حنجرة ﺍﻟﻤﻐنّي. عندما يطلقني ﻓﻲالهواء بين العلامات ﺍﻟموسيقية، أحتضنها لأجعلها ﺃكثر حزناً، ﻓﺘﺼﺒﺢ مثلاً:
ﺩُﻭْ تعيسة/ ﻓﺎ سوﺩاء شاحبة/ مِيْ ﺣﺰينة.

منذ أيام، ﻭﻓﻲ ﺇحدى الليالي، شعرت أنّ مخيّلتي قد نفدت: ﺃنف جدّي، شَعر ﺃمّي، نملاتي، سيجارتي...، لم يبق ﻟﻲ شيء لم أستخدمه، فأصابني الخوف ﻭﺍﻟﻬﻠﻊ، ﻭبدﺃﺕ ﺃفكر كيف سأقضي ﻟﻴﻠﻲ بعد ﺍﻵﻥ. شعرﺕ أني ﺍنتهيت وأني ﻋﻠﻰ وشك الموﺕ.
كيف أحيا بعد ﺍﻵﻥ؟ نفدت مخيلتي، لم يعد ﻟﻲ ﻭﻃﻦ ﺃحيا ﻓﻴﻪ، فوقفتُ ﺃمام ﺃحد الجدران ﻭبدﺃﺕ ﺃصيح وأنا في كامل قوﺍﻱ ﺍﻟﻌﻘﻠﻴﺔ: "ﺃرجوكم... ﻻ تحبسوني ﺩاخلكم وحيداً"ً..، أرجوك ﺃيها الجدﺍﺭ ضمّني لأصبح مثلك ﻋﻠﻰﺍﻷقل، ﺃﺭجوﻙ... وارتميت على الجدار، ﻭبدﺃﺕ ﺃبكي ﺇﻟﻰ ﺃﻥ ﺃﻏﻤﻲ ﻋﻠﻲّ.

بعد ﻓﺘﺮﺓ من الزمن ﺃفقت. حاولت ﺃﻥ أحرّك ﺭﺃسي لكنّي لم أتمكن ﻣﻦ ﺫلك. حاولت ﺃﻥ أحرّك يدﻱّ، ﺃﻥ ﺃمشي، ﻟكن من ﺩﻭﻥ جدﻭﻯ. كنت مكبلاً تماماً ﺇﻟﻰ ﺃﻥ دخلت أمي ﺍﻟﻐﺮﻓﺔ. ﺍﻗﺘﺮبت مني حاملة ﻓﻲ يدﻫﺎ صوﺭﺓ كبيرة لي ﻭأنا مبتسم كالأبله. وﻋﻠﻰ زاوية ﺍﻟصوﺭﺓ وضعت شريطة سوداء لم ﺃفهم سببها. كانت أمي تنظر ﺇﻟﻰ ﺍﻟصوﺭﺓ وتبكي. ﻓﺠﺄﺓ اﻗﺘﺮبت مني، ﻭثبّتت مسمارﺍً ﻋﻠﻰ جبيني، ﻭبدﺃﺕ تضربه بالمطرقة، ﺫﻫلت ﻭصحْتُ فيها:

- ﺃمي!... ما بك؟ ﺃمي... هذﺍ جبيني، مسمار يا أمي، مسمار!؟
ﻟﻜﻨﻬﺎ لم تسمعني. كانت تنظر إليَّ ﻭﻻ ﺗﺮﺍني، ﻭﺃنا ﺃﺻﺮﺥ مفجوعاً: أمي!... ﻫﻴﻴﻴﻴﻪ ﺃمي... أتريدين ﻗﺘﻠﻲ؟! ﻭبمسمار! لم ﻛﻞ هذا ﺍﻟحقد؟

حاولتُ ﺍﻟنظر ﻓﻲ ﻋﻴﻨﻴﻬﺎ علّها ﺗﺮﺍني، علّها تعطف عليَّ، لكنّها اكتفت بتعليق الصورة في المسمار، وكأنها ﺃﺭﺍﺩﺕ ﺃﻥ تخفي وجهي.
مضتْ ثلاثة ﺃيام ﻋﻠﻰ هذه ﺍﻟﺤﺎﻝ. ﻻ يسمعني ﻭﻻ ﻳﺮﺍني ﺃحد. فقط تقترب منّي ﺃمّي ﻭتبكي. ﺃحياناً كانت تُنزل ﺍﻟصوﺭﺓ وتحضنها، ﻭﺃنا ﻓﻲ ﻛﻞ مرة أحاول أن أقول لها: لمَ تكتفين باحتضان صوﺭتي، مادمت أنا أمامك؟! لكنها كانت تكتفي بإﻋﺎﺩﺓ ﺍﻟصوﺭﺓ إلى مكانها ﻭتخرج. بقيت على حالي هذه ﺇﻟﻰ ﺃﻥ سقطت ﺍﻟﺒارحة قذﺍئف عدة ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻐﺮﻓﺔ، فانهارت جدرانها. ﺇحدى ﺍﻟقذﺍئف أصابت ظهري، وفتّتتني قطعاً. تناثر جسدي ﻋﻠﻰ ﺍﻷﺭﺽ. حينها أسرع بعض الرجال ﻭبدأﻭا بالبحث ﻋﻦ أحدٍ ما قد يكون ﺩُﻓﻦ تحت ﺍﻟﺮكام.

ﺃحدهم اﻟﺘقط ﺭجلي ﻭﺭماها بعيدﺍً من ﺩﻭﻥ أن ينظر ﺇﻟﻴﻬﺎ. آخر داس على ﺭﺃسي ﻭتابع طريقه. ﺃمّا ﺃمي فكانت تقف ببرود وفي يدﻫﺎ حقيبة كبيرة. حملت ﺍﻟصوﺭﺓ ﻭﻭضعتها ﻓﻲﺍﻟﺤﻘﻴﺒﺔ ﻭبدﺃﺕ تلتقط بعض ﺍﻟﺮكام وتضعه في الحقيبة. ما أدهشني أنها كانت تختار ركامي فقط.  وبعدما انتهت من جمعي، حملت حقيبتها ونزحت، نزحت بعيداً، ونزحتُ معها.
دلالات
المساهمون