حكواتي: أسمع صوتها كل يوم

16 يناير 2015
الصوت المؤلم (Getty)
+ الخط -
أسمع صوتها كل يوم. تصرخ، وتستغيث. تنادي اللّه وأمها. لا أحد يسمعها. أجلس ساعات على الشرفة حيث أسمع الصوت. أنتظر أن أرى وجهها، ولكن الوجه لا يظهر أبداً، ويستمر الصراخ والبكاء. لم أسمع مثل صوتها من قبل. لم أستطع منذ خمسة أشهر أن أميّز عمرها. تبكي مثل طفلة حُرمت السكاكر، وامرأة ثلاثينية مات زوجها، وعجوز تغادرها الروح الآن.

يبدو أني وحدي أسمعها. تخرج إحدى الجارات أحياناً إلى شرفتها، لكنّها لا تسمع. تنشر غسيلها ببرود. تنادي على ابنتها كي تناولها المزيد من ملاقط الغسيل، وتدخل. أقرّر أحياناً أن أصرخ أنا أيضاً. أن أنادي الجارة، وأسألها عن الصوت. لا أنادي أبداً.

أنظر إلى بيوت الجيران، وأكلّم نفسي. منذ متى تصرخ هذه الجارة التي لا أستطيع وصفها؟ هل صرخت كثيراً حتى أُصيب الحي كله بالصمم، فلم يعودوا يسمعونها؟ هل أسمعها وحدي لأنني ما زلت جديدة في الحي، وهل سيأتي دوري قريباً، وأصاب أنا أيضاً بالصمم فلا أسمع صوتها؟ الاحتمال الأخير بدا أكثر رحمة من الصوت. رغم هذا، لا أدري ما الذي كان يمنعني من مغادرة الشرفة.

أحياناً تطول غيبة صوتها. يمرّ أسبوع، ثم يعود الصوت من جديد. الغريب أنّ صوتها يلغي جميع الأصوات الأخرى. حالما تبدأ بالصراخ والبكاء، يختفي صوتي أنا مثلاً. تسلّم عليّ شريكتي في السكن، فلا أردّ. لا يخرج صوتي أبداً. حتى الأدوات تصبح بلا صوت. أكسر كؤوساً وصحوناً على الأرض، أغلق الأبواب والشبابيك بقوة، "أفقع" عدداً من البالونات التي نسيتها في إحدى الزوايا، حتى السيارات التي تمر في الشارع تفقد صوتها. تختفي كلّ الأصوات دفعة واحدة.

مرة واحدة قررتُ أن أتمرّد على صوتها هذا. حالما بدأتْ بالصراخ، أدرت هاتفي على موسيقى "عم أحمد" لعمر خيرت. مرّت دقيقة قبل أن يتوقف صراخها، ولم نعد نسمع سوى الموسيقى. كلما عادت للصراخ والبكاء، أشغّل المعزوفة من جديد، فتتوقف. أعتقد أننا أصبحنا صديقتين من حينها. لم أرَ وجهها حتى الآن، ولا أعرف لما تبدأ فجأة بالصراخ، لكنها بالتأكيد تحب الموسيقى. الموسيقى هي الوحيدة التي تتغلب على صوتها، تغنيها عن جميع مَن تناديهم، وتتغلّب على فضولي وأسئلتي.
المساهمون