حكايتي مع أطفال بدو الجهالين

23 سبتمبر 2014
أطفال في مهب التهجير (Getty)
+ الخط -

منذ أيّام وجريدة "هآرتس الإسرائيلية" تقوم بنشر التطوّرات حول المشروع الاستيطاني الاحتلالي الجديد، وهو إقامة مدينة "تلّ النعيمية" شمال أريحا لجميع "بدو الجهالين" المقيمين في تجمّعات تمتدّ بين القدس وأريحا وتعيق المدّ الاستيطاني بينهما.
اليوم قرأت الخبر الرئيسي في الصحيفة نفسها، والذي استفزّني هو أنّ "سلطات الاحتلال، وبسبب التغييرات في مبنى المجتمع الفلاحي البدوي (هكذا في الأصل) واتجاه بدو الجهالين إلى التجارة والخدمات، قرّرت بناء مدينة سيسكن فيها ما لا يقلّ عن 12 ألف نسمة، بدون استشارة أصحاب الشأن، ورغم أنفهم، وضدّ توصية رئيس محكمة العدل الإسرائيلية العليا الذي أوصى بالتفاوض مع السكّان حول الموضوع".

بسبب تجوالي المستمرّ في أنحاء بلادي، أرى بأمّ عيني التزايد المرعب لمستوطنات الاحتلال على كلّ تلة وفي كلّ وادٍ، ويستفزّني الموضوع جداً، خصوصاً فيما نحن غارقون حالياً في أجواء الانتصار الوهمي. وأغتاظ عند سماعي أيّ خبر عن مصادرة الأراضي. أغتاظ من تعوّدنا على مثل هذه الأخبار ومن انشغالنا بأمور كثيرة أقلّ أهميّة، رغم أنّ زيادة الاستيطان يجب أن تكون هي الأهمّ في نضالنا اليومي. لكنّ الخبر عن عرب الجهالين أوجعني كثيراً لأنّني عشت مع أطفال تجمّع الخان الأحمر وأمّهات وادي أبو هندي، طوال أشهر عديدة، على مدى أكثر من سنتين.

قبل 3 سنوات توجّه إليّ أحدهم من مؤسّسة "تامر" في رام الله، يطلب مرافِقَة مهنية واستشارية لمؤسّسة إيطالية غير حكومية اسمها Vento De tera تعمل مع أطفال في كلّ من الخان الأحمر ووادي أبو هندي. وهي تجمّعات لبدو الجهالين تقع على منحدر مستوطنة "معالية أدوميم" جنوب القدس، شمال أريحا. والهدف من العمل مع الأطفال كان محاولة المحافظة على الموروث الشعبي ونقله إلى الأطفال بهدف استمراريته في ظلّ التهديد الدائم بالتهجير، وذلك للمرّة الثالثة منذ العام 1948.

منذ اللقاء الأوّل لي مع الأطفال في المدرسة المبنية من إطارات السيارت والطين، والمهدّدة، بأمر من محكمة إسرائيلية، بقرار هدم تعسّفي، شعرت بأنّني أعرف الأطفال من زمان طويل.  وبسرعة تواصلت معهم بشكل رائع، خصوصاً طلاب وطالبات الصفّين الرابع والسادس الذين عملت معهم مباشرة ودرّبتهم على جمع الحكايات وعلى فنّ الحكي، طوال أربعة أشهر، ولسنتين متتاليتين. وخلُصت التجرية إلى إصدار كتابين، واحد بالعربية وآخر بالإيطالية، مرفقَين برسومات شارك في رسمها الأطفال. واحتوى الكتابان حكايات تمّ جمعها من الأطفال وتأكّدتُ بنفسي من تفاصيلها، عبر سؤال النساء وكبار السنّ.

هكذا تعرّفت إلى الأمّهات، وإلى نساء التجمّع، ولمّا سألتهنّ، بناء على طلب الصبية الإيطالية المرافقة للمشروع، عن أحلامهنّ، كانت كثير من الإجابات متشابهة وهي: "حلمنا أن نبقى هنا وألا يفرضوا علينا الانتقال إلى شقق مخنوقة حيث نفقد حياتنا التقليدية التي نحبّ".

ولما التقيت قبل سنة، في إطار تصوير فيلم "الحكواتية"، بالطفلة نورا العرعرة، الحكواتية الرائعة، التي زوّدتني بكثير من الحكايات، هي وكلّ أفراد عائلتها الجميلة، كنّا نسلك الطريق الصعب إلى بيتها من المدرسة، وهناك سألتها: "نورا، هل تفضّلين العيش في مكان آخر يكون أحسن وأقرب إلى المدرسة؟"، فما كان منها إلا أن نظرت إليّ بعتب وقالت: "يا دنيس، الواحدة مطرح ما بتُولد بتضلّ"... أوجعتني هذه الجملة لأنّني كنت أعرف أنّ نورا وأهلها سيجبرهم الاحتلال الإسرائيلي على الهجرة القسرية وترك "حيث ولدوا، عاجلاً أو آجلاً. 

للأسف مشروع جمع الحكايات كان مموّلًا من الاتحاد الأوروبي، والتنفيذ كان من قبل المؤسسة الإيطالية، بالشراكة مع مؤسسة "تامر" الفلسطينية. ولمّا توقّف التمويل توقّف المشروع. بعدها تواصلتُ لمرّة أو مرّتين مباشرة مع مدرسة الخان الأحمر، بهدف تصوير مقاطع لفيلم "الحكواتية". ووعدتُ الأطفال بأن أعود لأسمع حكاياتهم وبأن أحكي لهم حكايات أطفال مثلهم جمعتها في أنحاء أخرى من الوطن. وما وفيت بوعدي، كعهد كبار السنّ. لكن اليوم، وبعد قراءتي الخبر عن اقتراب تهجيرهم بالقوّة، هم أهل الخان الأحمر، ندمتُ لأنّني توقّفتُ عن التواصل مع أحلى أطفال اشتغلت معهم في حياتي.

شعرتُ بأنّني، مثلي مثل الجميع، في حاجة إلى الدعم الأوروبي الأجنبي لأعمل في مشاريع مع أطفال بلادي. رغم معرفتي واقتناعي بأنّ كلّ هذا التمويل ما هو إلّا نوع من أنواع الاستعمار الحديث. فالأجانب يقومون بتمويل المشاريع الإنسانية في أغلب الاحيان لإرضاء ضميرهم حيال ما يصيب شعبنا من ظلم وما نتعرّض إليه دورياً من مجازر، وليس أكثر. 

المساهمون