حكاية المحمل المصري... من شجرة الدر إلى زمن عبد الناصر

11 اغسطس 2019
كان الحجيج المغاربة ينضمون إلى القافلة المصرية (Getty)
+ الخط -
منذ زمن عتيق والعرب يهتمون بتجديد كسوة الكعبة سنوياً، أما أول ذكر لمصر بشأن "كسوة الكعبة" فيعود إلى زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، الذي أوصى بعمل كِسوة الكعبة من القماش القباطي الذي اشتهرت به الفيوم. وكان المسؤول المصري عن صناعة الكسوة يلقب بـ"ناظر الكسوة". أما مصطلح "المحمل" فيعني ذلك الموكب الرسمي والشعبي الذي كان يخرج سنوياً من القاهرة حاملاً كسوة الكعبة الجديدة إلى الحجاز بالإضافة إلى نفقات الحجاج التي كان يسلمها أمير الحج إلى أمير مكة، ثم العودة بعد نهاية موسم الحج إلى مصر حاملاً الكسوة القديمة التي يتم تقطيعها وإهداؤها للنبلاء والشخصيات الكبرى. 

شجرة الدر
بدأت الصورة التقليدية لموكب المحمل في العصر الأيوبي مع رحلة الحج التي قطعتها شجرة الدر (توفيت سنة 1257م)، حيث صُنع لها هودج ذو قبة مزركشة أعلى فحل من الجِمال الأشداء، وقد أطلق عليه اسم "المحمل"، وفيه جلست شجرة الدر ومعها كسوة الكعبة داخل صندوق مغلق، ومن خلفها كانت تسير قافلة الحجاج المصرية. ويبدو أن المكانة السياسية لشجرة الدر هي التي صبغت رحلة المحمل بطبيعته الرسمية أول الأمر، لكن تطور شكل الرحلة في عصر المماليك، حتى قيل إن أول ظهور لموكب المحمل في صورته الكاملة كان في عهد الظاهر بيبرس سنة 1277م. وعلى مدى عصور متعاقبة ظلّ المحمل يطوف ببعض شوارع القاهرة لمدة ثلاثة أيام، وسط احتفال رسمي وشعبي مشترك، يشبه احتفالات الموالد الصوفية، تصاحبه أغاني للحجيج واستعراضات عسكرية، وكان الهودج المزين بالحرير والفضة يتصدر قافلة الحج المصرية التي يتزعمها "أمير الحج". ولما كانت مصر في طريق القوافل القادمة من المغرب العربي نحو الحجاز، كان الحجيج المغاربة ينضمون إلى القافلة المصرية ويشاركون المحمل المصري رحلته إلى الحجاز حيث يخرج أمير مكة لاستقبال القافلة وتسلم كسوة الكعبة من أمير الحج المصري.

محامل أخرى
بالرغم من وجود محاولات يمنية وعراقية شامية لتقديم محمل مشابه للمحمل المصري، فإن الوضع استقر للسلاطين المصريين بسبب نفوذهم المتزايد والمستمر على الحجاز، وحتى عندما سقطت دولة المماليك كلف السلطان العثماني ولاته في مصر أن يبقوا على هذه العادة. وقد وصف "ابن إياس" في كتابه (بدائع الزهور)، موكب خروج المحمل سنة 1504م، في زمان قنصوة الغوري، وكيف كان يرقُص العوام وهم يغنون بعض أغاني زمانهم المخصصة للحجيج وللموكب. ومن مشاهير المؤرخين الذين وصفوا موكب المحمل أيضاً "ابن بطوطة" و"ناصر الدين خسرو" و"المقريزي".

وثائق وحوادث نادرة
ومن الوثائق النادرة التي كشف عنها أنه في موسم الحج سنة 1903 كانت أجرة الجمل الواحد المشارك في موكب المحمل 11 جنيهاً و500 مليم، ذهاباً وإياباً بين مصر والحجاز متضمناً الانتقالات الداخلية بين الأماكن والمزارات المقدسة إضافة إلى احتفالات الموكب بالقاهرة. ومن الحوادث المهمة المرتبطة بالمحمل المصري، أنه في عهد الملك أحمد فؤاد الأول سنة 1926، كان الملك عبد العزيز آل سعود قد تمكن من السيطرة على الحجاز بمساعدة تنظيم تحالف القبائل العربية أطلقوا عليهم "إخوان من أطاع الله"، وهو تنظيم متشدد يرى تحريم الموسيقى ويعتبرها انتهاكاً لحرمة المقدسات. ولذا حين قدم الوفد المصري تتقدمه فرقة موسيقية تعزف ابتهاجاً بوصول موكب المحمل كما جرت العادة، توترت الأجواء وانتهت بإطلاق النار المتبادل بين الجانبين ووفاة عشرات الأشخاص، وهو ما نشبت عنه أزمة دبلوماسية توقف فيها المحمل المصري بصورة مؤقتة حتى بدايات عصر الملك فاروق حين وقع الطرفان المصري والسعودي سنة 1936 معاهدة صداقة؛ فعاد موكب المحمل مرة أخرى. لكنه توقف نهائياً سنة 1962 في عهد جمال عبد الناصر، ولا تزال آخر كسوة مصرية للكعبة معروضة في دار الخرنفش في حي باب الشعرية بالقاهرة.
دلالات
المساهمون