يقول الشاب العشريني محمد، من داخل القبو، "غالبية المتواجدين لا يعرفون بعضهم البعض، وهم يرتدون ملابس مناسبة لأنهم قد يضطرون إلى مغادرته فجأة إلى مكان آخر من جراء القصف، أو يموتون تحت أنقاض المبنى، وليس من اللائق دينيا واجتماعيا أن تكون ثيابهم غير مناسبة".
ويوضح لـ"العربي الجديد": "أخي الصغير لا يفلت يدي إلا نادرا، يشد عليها كلما يسمع دوي انفجار، ويسألني كل مرة أين الانفجار؟ رغم أني أخبرته مرات عدة أنه عندما نسمع صوت الانفجار فإنه يكون بعيدا عنا ونكون بخير، إلا أنه في كل مرة يشعر بالخوف".
أما طفلتا أم زهرة، الكبيرة منهما لم تتجاوز السابعة، فلم تغادرا حضن والدتهما منذ خمسة أيام، رغم أنهما منذ وصلتا إلى الدنيا تسمعان دوي الانفجارات وتشاهدان جثامين الضحايا، لكنهما لا تزالان تشعران بالخوف، محاولتين إخفاء وجهيهما بصدر أمهما، وتقول الأم لـ"العربي الجديد"، إنهما كذلك منذ العام الماضي، بعد أن أصابت قذيفة منزلنا واستشهدت بنت عمهما.
وتقول الناشطة نيفين الحوتري، وهي أم لطفلين، "ليلة مبارح سرت لحظة سكون انتظرناها عسى أن يرتاح البال. طلعت رشقة راجمة صواريخ، من صوتها واضح إنها أقوى مما سبقها، وواضح أنها قريبة منا، على مدى خمسة أيام يتواصل القصف. ليل وعتم وما حدا شايف حدا، نسمع أصوات من حولنا دون أن نعرفهم. نسوان تدعو الله يلطف. طلع من بينهن صوت ولد قال: (الله يكسر إيديه). كان واضحا من صوته الخوف. رد عليه ولد في القبو يطمنه: "لا تخاف بعاد عنا".
وتضيف الحوتري، "أصوات البراميل تهز القلب وتسبب ضغطا على الأذن، أحاول فتح فمي كل مرة بينزلوا، لتخفيف الضغط عن أذني، حيلة تعلمناها في دروس العلوم بالمدرسة، فجأة طلع صوت رجل مسن بالقبو يسأل: معقول كل الإرهابية حولنا؟ قلت له: لو النظام ودول العالم فيهم إنسانية ما كانوا رضيوا إنك تنام على أرض القبو البارد. إنسانية العالم ناقصة. يتركك تنام بردان وجوعان وهو سهران يحضر لخطبة عن معاناتك وحقوق الإنسان والإنسانية".
أبو محمود، خمسيني محاصر في الغوطة، لم يجد مكانا يحمي عائلته سوى أسفل درج البناء الذي يسكنه، يقول لـ"العربي الجديد": "أصبحنا خبراء عسكريين خلال السنوات السبع الماضية، نعلم من دوي الانفجار نوع السلاح، مثلا إن كانت الطائرة المروحية تقف فوقنا نعلم أن البرميل لن يسقط علينا بل على بعد عشرات الأمتار، وعند سماع هدير الطائرة الحربية، نتنبه أن هناك غارة، فهي في مرورها الأول لا تقصف بل تنقض على هدفها عندما تلتف، حتى أننا بتنا بعد أن نسمع صوت صفير القنابل وراجمات الصواريخ، نقدر إلى أين تتجه".
ويتابع "منذ أيام لم أعرف النوم، حتى حين أغمض عيني من الإجهاد، لا يفارق أذني دوي الانفجارات وهدير الطائرات، إضافة إلى ارتجاجات الأرض من تحتنا".
المشهد في شوارع الغوطة مختلف، فرغم شبه انعدام الحركة جراء القصف، تجد بعض الأطفال والشباب الفضوليين يقفون على جانب الطريق وأعينهم معلقة بالسماء، وكأنهم يحاولون رصد حركة الطائرات والصواريخ والقذائف.
شاب يسير في الشارع بخطى متسارعة، وكأنه يهرب من شيء يلحق به، وجهه أصفر يبدو عليه الإرهاق، فجأة يدوي انفجار كبير، فيتمدد على الأرض ويضع يديه فوق رأسه، وبعد لحظات يرفع رأسه لينظر حوله، ثم يقف على مهل يتفقد جسده إن كان أصيب بشظية، ويكمل طريقه.
في الشارع الآخر، نجد رجلا في الخمسين من العمر، يلف رأسه بقطعة قماش، وثيابه مغبرة وكأنه خارج من تحت الأنقاض، ولا يرتدي حذاء، في حين يحمل بيده علبة بلاستيكية بها ماء، يسير بمحاذاة جدران المنازل، وكلما يسمع صوت انفجار أو هدير طائرة، يخفض رأسه ويحاول أن يلجأ إلى مدخل أحد الأبنية، إلى أن دخل أحد المنازل ولم يخرج منها.
ويوضح ناشطون لـ"العربي الجديد"، أن "الوضع في الغوطة كارثي، والموت يحصد الناس بشكل عشوائي، ففي حين يعتقد الناس أنهم يستطيعون حماية عائلاتهم أو أنفسهم من القصف، تصل القنابل والصواريخ التي يستخدمها النظام وحلفاؤه إلى من يختبئ في الملاجئ والأقبية التي تحولت كثير منها إلى قبور لعشرات المدنيين بعدما دُمرت الأبنية فوق رؤوسهم".
مئات آلاف المدنيين في الغوطة تحولوا إلى أهداف مستباحة للطائرات والمدفعية وغيرها من الأسلحة، وكل ما يستطيع المحاصرون فعله هو إغماض عيونهم والاختباء بالزوايا، والدعاء أن يحميهم الله، فهم لا يملكون ما يحتمون به.