حظر تجول طبقي

29 اغسطس 2020
حُرم من فنجانه (محمود زيات/ فرانس برس)
+ الخط -

عند الخامسة فجر كلّ يوم، يصل الشاب الذي لم يتجاوز الخامسة والعشرين إلى سيارة الإكسبرس، في شارع يمرّ بين مقابر ثلاث. السيارة المجهزة بعدة القهوة والمشروبات الساخنة ثابتة في مكانها المعتاد تبعاً لحكاية طويلة لا علاقة مباشرة لها بالسطور التالية، لكنّ الخلاصة فيها هي تقسيم شوارع وزواريب لبنان في محاصصات طائفية حزبية تيسّر للمستزلمين لدى الزعماء افتتاح مشاريعهم الخاصة من هذا النوع.
في كلّ الأحوال، يصل الشاب عند الخامسة. هي قاعدته التي كانت قبل الجامعة وبعدها. هذا وقت المصلّين الآتين إلى المساجد للصلاة والدعاء بالرزق والصحة وحسن الختام والفوز بجنات الرحمن، وهو نفسه وقت عودة المحتفلين، وإن حزناً، من سهراتهم الطويلة بأفكار صاخبة متضاربة تنتظر وسادة تمتصّ ما بقي من طاقة لديهم، وترمي بهم إلى أحلام أكثر صخباً، وربما حزناً.
هو لا يصلّي ولا يجد معنى لذلك، ولا يعود من سهرات صاخبة، إذ لا يفكر خارج نطاق ما يملك في جيبته من مال. وما يملكه يومياً قليل. لكنّه متأقلم مع كونه خريجاً جامعياً لم يعمل قبل نيل الشهادة ولا بعدها. وهو متأقلم مع كونه ابن أسرة فقيرة، سمّيت في زمان بعيد "طبقة وسطى" فصدّق جيلها الأكبر ذلك، ومضى يسعى في وظيفته لتأمين قوت عائلة يزداد أفرادها يوماً بعد يوم، واستأجر منزلاً بات للغرابة يصغر كلّ مرة مع كلّ مولود جديد، حتى بات مجرد ثلاث غرف، لا يقوى ذلك الجيل على سداد إيجارها من دون مساعدة الجيل الأحدث الذي انصاع لرغبات "الطبقة الوسطى" بدوره وتعلّم وتخرّج في أمل الوصول إلى تلك الوظيفة وتحقيق إعادة إنتاج الطبقة بأكملها، فعجز عن ذلك. وهو عجز نابع من البنية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للبنان، ويتركّز كلّه في دائرة واحدة هي القهر.

موقف
التحديثات الحية

لكنّه تأقلم مع كلّ ذلك، وبات مواطناً لبنانياً مثالياً منذ زمن بعيد: شاب، بشهادة جامعية، بلا طموح أو أحلام. كلّ ما هنالك أنّه اعتاد المجيء إلى هذا المكان، هرباً من اكتظاظ البيت، لمزاحمة السيارات العابرة في جلوسه هناك، آملاً ربما في أن تصدمه إحداها، بينما يتناول فنجان القهوة، وينتظر التماع هلال المئذنة بالشروق. هذه عادته التي ربما تسمح له بالصمود في عالم متواطئ بكلّ قوته عليه.
لكنّه مُنع من ذلك. الإكسبرس ضاعف التسعيرة قبل فترة، ففشل اقتصادياً في الوجود يومياً هناك، لتقتصر زياراته على أربع مرات أسبوعياً لتناول القهوة فقط من دون أيّ إضافة. أما وقته عند الخامسة فبات غير ملائم، إذ إنّ تدابير مكافحة كورونا تحظر التجول من السادسة مساء إلى السادسة صباحاً، في عبقرية حكومية لا تعرف سبيلاً لمكافحة الوباء غير الإغلاق.
هي قضية تافهة، ألّا يتمكن من المجيء إلى مكانه المعتاد، أليس كذلك؟ لكن، حتى هذه القضية التافهة، والتي لم يبقَ غيرها له، حُرم منها.

المساهمون