زارتني والدموع في عينيها شاردة مكسورة.
نظرتُ إليها وقد انتابني الذهول. هل هي نفس المرأة التي التقيت بها قبل أعوام صحبة زوجها ؟ خلتها حينها أسعد النساء.
كانت صغيرة السن مفعمة بالحيوية رغم أنها حديثة عهدٍ بالبلد . نظرتُ إلى عينيها وقرأتُ فيهما الكثير من الكلام . ترى هل تريد أن تتكلم؟ لكنها نظرت إلى فنجان قهوتها، ونفضت سيجارتها، وساد السكون المكان. فجأة وبصوت منخفض قالت: ما الذي يدفع الناس إلى هجرة أوطانهم وترك الأهل والأحباب؟
نظرتُ إليها، وقلت: هجرة الناس مختلفة، فهناك من يهاجر من أجل العلم، وآخر من أجل العيش، وهناك من هاجر هروباً من الظلم في بلاده. فتمتمتْ بصوت منخفض: أو ربما بحثاً عن الحرية. نظرتُ إليها وأجبتُ ربما! وزاد فضولي لمعرفة ماذا فعل بها الزمان ولماذا تبدو كأنها عجوز تنتظر الموت.
قالت وفي عينيها حزن دفين: كنت في السابعة عشرة من عمري حين جاء إلينا طالبا يدي من والديّ. تكلم عن نفسه كثيرا حتى خلت نفسي أمام ابن السلطان . تراقص الفؤاد فرحاً، وبتُّ ليلتي وأنا أحلم بسحر الغرب والحريّة. أقيمت مراسيم الأفراح وغادرت الأهل والأحباب مع زوجي إلى بلد الأحلام. في الطائرة تخيلت البيت الواسع والسيارة الفارهة التي لا بد أنها تنتظرنا في المطار.
وأخيراً وصلت إلى بلد سحر الغرب والحريّة، أخذنا الحقائب التي كانت لا تحوي الكثير من الملابس، لأنني سأزور أكبر دور الأزياء العالمية، وأشتري ما يحلو لي. هكذا قال زوجي.
خرجنا حيث كنت أحلم برؤية سيارته الفارهة، وإذا به يستوقف سيارة أجرة ويطلب منه أن يوصلنا، تحطمت أولى أحلامي في بلد الحريات. وصلت المنزل، تلفت حولي لعلي أرى البيت الكبير، والخدم، ومشيت وراءه وأنا ألملم أذيال خيبتي، وإذا بالبيت الكبير ما هو إلا كوخ صغير، وبدأت أحلامي تتحطم حلما تلو الآخر.
شلتني الصدمة، لن أستطيع العودة من حيث أتيت لئلا يشمت بي القاصي والداني، ممن رفضتُ الاقتران بهم .
بدأت الأيام تكشف لي زيفه وخداعه، متزوج من امرأة أخرى تركته وهربتْ، يسهر خارج البيت، ولا يعود إلا فجراً ! أين يذهب؟ ماذا يفعل؟ لا أدري. أصبحتُ حبيسة الجدران. ودارت الأيام وأصبح بيتنا الصغير ملجأ سهر لرفقاء السوء. كنت أجلس معهم وهم يتسامرون، وزوجي يطلب مني أن أبقى ولا بأس في أن أشاركهم سمرهم، هكذا قال الشيطان إنها بلد الحريات.
كنتُ مبهورة بسحر الغرب بلد الحريات. كان الحنين للشرق ينتابني في أحايين كثيرة. وذات يوم زارنا لعدة أيام صديق لزوجي كان مختلفاً عن الآخرين. يبدو وسيما والنعمة بادية على وجهه ارتحت له، حدثني عن نفسه بأنه رجل أعمال كبير يملك المال والجاه والسلطان.
صدقته وحدثته عن مصيبتي، غضب من صديقه، وقال: هذا مريض نفسياً ولا ينبغي أن تبقي معه ولو للحظة.
فقاطعتُها: هل تحدث عن ذلك أمام زوجك؟ قالت لا، زوجي تركني وادعى أنه متعب وأن بإمكاني مواصلة الجلوس إلى ضيفه. وثقت في كلام صديق زوجي، وتركت المنزل وزوجي لأتزوجه. وفعلاً بدا أنه ميسور الحال، وأخيرا أحلامي ستتحقق وأصبحنا نخرج لسهرات وحفلات وتناول الطعام في الفنادق، بحجة أن رجال الأعمال أصحابه يجتمعون هناك.
وبدأ الشيطان الأكبر يكشف عن نفسه. كان يقدمني لرجال الأعمال ويقول لي خذي منهم دون أن تعطيهم، فقط اصعدي لغرفهم، وسامريهم. ضعت في بلد الحريات ولصغر سني لم أميز بين الخطأ والصواب.
اكتشفتُ أنني هربت من قوّاد صغير لقوّاد أكبر، وأن بلد الحريات أدخلني ظلمة القبور. وفي يوم من الأيام أراد الله أن يكشف لي الحقيقة فسمعت حديثا دار بين الصديقين واحتد الخلاف وبلغ مسامعي قول زوجي الأول: سأعيد لك المال ، وأعدها لي. صعقت لقد تم بيعي كالجواري. ولفّني حزن عميق من مصيري المشؤوم.
كشف الله الغمة عن بصري وأعادني لجادة الصواب والطريق السليم ، فهربتُ تاركة ورائي ماضياً بغيضاً، وأحلاماً تحطمت على أول عتبات سحر الغرب اللعين. وذات يوم قرأت في وسائل الإعلام .. وجد مقتولا في شقته والمتهم صديقه. إنها عدالة السماء صديقتي، صدقيني أنا تغيرت، أعتمد على نفسي وأحيا حياةً كريمة، ولم يعد يستهويني سحر الغرب ولا بلد الحريات. لكني لا أستطيع العودة.
(رئيسة جمعية همسة سماء للثقافة)
نظرتُ إليها وقد انتابني الذهول. هل هي نفس المرأة التي التقيت بها قبل أعوام صحبة زوجها ؟ خلتها حينها أسعد النساء.
كانت صغيرة السن مفعمة بالحيوية رغم أنها حديثة عهدٍ بالبلد . نظرتُ إلى عينيها وقرأتُ فيهما الكثير من الكلام . ترى هل تريد أن تتكلم؟ لكنها نظرت إلى فنجان قهوتها، ونفضت سيجارتها، وساد السكون المكان. فجأة وبصوت منخفض قالت: ما الذي يدفع الناس إلى هجرة أوطانهم وترك الأهل والأحباب؟
نظرتُ إليها، وقلت: هجرة الناس مختلفة، فهناك من يهاجر من أجل العلم، وآخر من أجل العيش، وهناك من هاجر هروباً من الظلم في بلاده. فتمتمتْ بصوت منخفض: أو ربما بحثاً عن الحرية. نظرتُ إليها وأجبتُ ربما! وزاد فضولي لمعرفة ماذا فعل بها الزمان ولماذا تبدو كأنها عجوز تنتظر الموت.
قالت وفي عينيها حزن دفين: كنت في السابعة عشرة من عمري حين جاء إلينا طالبا يدي من والديّ. تكلم عن نفسه كثيرا حتى خلت نفسي أمام ابن السلطان . تراقص الفؤاد فرحاً، وبتُّ ليلتي وأنا أحلم بسحر الغرب والحريّة. أقيمت مراسيم الأفراح وغادرت الأهل والأحباب مع زوجي إلى بلد الأحلام. في الطائرة تخيلت البيت الواسع والسيارة الفارهة التي لا بد أنها تنتظرنا في المطار.
وأخيراً وصلت إلى بلد سحر الغرب والحريّة، أخذنا الحقائب التي كانت لا تحوي الكثير من الملابس، لأنني سأزور أكبر دور الأزياء العالمية، وأشتري ما يحلو لي. هكذا قال زوجي.
خرجنا حيث كنت أحلم برؤية سيارته الفارهة، وإذا به يستوقف سيارة أجرة ويطلب منه أن يوصلنا، تحطمت أولى أحلامي في بلد الحريات. وصلت المنزل، تلفت حولي لعلي أرى البيت الكبير، والخدم، ومشيت وراءه وأنا ألملم أذيال خيبتي، وإذا بالبيت الكبير ما هو إلا كوخ صغير، وبدأت أحلامي تتحطم حلما تلو الآخر.
شلتني الصدمة، لن أستطيع العودة من حيث أتيت لئلا يشمت بي القاصي والداني، ممن رفضتُ الاقتران بهم .
بدأت الأيام تكشف لي زيفه وخداعه، متزوج من امرأة أخرى تركته وهربتْ، يسهر خارج البيت، ولا يعود إلا فجراً ! أين يذهب؟ ماذا يفعل؟ لا أدري. أصبحتُ حبيسة الجدران. ودارت الأيام وأصبح بيتنا الصغير ملجأ سهر لرفقاء السوء. كنت أجلس معهم وهم يتسامرون، وزوجي يطلب مني أن أبقى ولا بأس في أن أشاركهم سمرهم، هكذا قال الشيطان إنها بلد الحريات.
كنتُ مبهورة بسحر الغرب بلد الحريات. كان الحنين للشرق ينتابني في أحايين كثيرة. وذات يوم زارنا لعدة أيام صديق لزوجي كان مختلفاً عن الآخرين. يبدو وسيما والنعمة بادية على وجهه ارتحت له، حدثني عن نفسه بأنه رجل أعمال كبير يملك المال والجاه والسلطان.
صدقته وحدثته عن مصيبتي، غضب من صديقه، وقال: هذا مريض نفسياً ولا ينبغي أن تبقي معه ولو للحظة.
فقاطعتُها: هل تحدث عن ذلك أمام زوجك؟ قالت لا، زوجي تركني وادعى أنه متعب وأن بإمكاني مواصلة الجلوس إلى ضيفه. وثقت في كلام صديق زوجي، وتركت المنزل وزوجي لأتزوجه. وفعلاً بدا أنه ميسور الحال، وأخيرا أحلامي ستتحقق وأصبحنا نخرج لسهرات وحفلات وتناول الطعام في الفنادق، بحجة أن رجال الأعمال أصحابه يجتمعون هناك.
وبدأ الشيطان الأكبر يكشف عن نفسه. كان يقدمني لرجال الأعمال ويقول لي خذي منهم دون أن تعطيهم، فقط اصعدي لغرفهم، وسامريهم. ضعت في بلد الحريات ولصغر سني لم أميز بين الخطأ والصواب.
اكتشفتُ أنني هربت من قوّاد صغير لقوّاد أكبر، وأن بلد الحريات أدخلني ظلمة القبور. وفي يوم من الأيام أراد الله أن يكشف لي الحقيقة فسمعت حديثا دار بين الصديقين واحتد الخلاف وبلغ مسامعي قول زوجي الأول: سأعيد لك المال ، وأعدها لي. صعقت لقد تم بيعي كالجواري. ولفّني حزن عميق من مصيري المشؤوم.
كشف الله الغمة عن بصري وأعادني لجادة الصواب والطريق السليم ، فهربتُ تاركة ورائي ماضياً بغيضاً، وأحلاماً تحطمت على أول عتبات سحر الغرب اللعين. وذات يوم قرأت في وسائل الإعلام .. وجد مقتولا في شقته والمتهم صديقه. إنها عدالة السماء صديقتي، صدقيني أنا تغيرت، أعتمد على نفسي وأحيا حياةً كريمة، ولم يعد يستهويني سحر الغرب ولا بلد الحريات. لكني لا أستطيع العودة.
(رئيسة جمعية همسة سماء للثقافة)