حرب القتلة الطلقاء
كيف حصل ذلك؟ من هو المقصِّر؟ وكيف يتكرَّر تجريد البنادق الرشاشة في شارع الدولة العظمى، لتحصد الناس، جهاراً، في غضون عام أو نحوه؟ هذه أسئلة الفرنسيين للفرنسيين. أما نحن، فأسئلتنا حيال مجزرة باريس، الأخيرة، أصعب وأبقى: كيف طلع هؤلاء القتلة من بين ظهرانينا؟ وعلى أيّ نص تغذَّى حزامهم الناسف؟ من ثدي أيّ دينٍ رضع؟ هل يكفي القول، إن هذا رد فعل على ما فعله الغرب بنا وبأرضنا ومقدساتنا؟ ولِمَ يتهلل المهللون لرؤية دم بريء يُسفك؟
هناك نص ديني وراء هؤلاء، ومن الضحك على الذقون، ووضع الرؤوس في الرمل، أن نقول لا وجود له. هذا النص موجود. ونحن نراه في الفضائيات، ونسمعه في الراديوهات. هذا النص موجود. وهو لا يُسْمع في تورا بورا. ولا في وداي خيبر. هذا النص موجود. سدنته موجودون. أدوات تغلغله بين الناس علنية، فهو لا يأتينا من "مدارس" باكستان و"طالبان". إنه أقرب من ذلك بكثير. ربما من حيث لا نحتسب: مدننا، عشوائياتنا، مناطقنا "الأقل حظاً"، ومدارسنا الرسمية. لا يهمني من نفّذ عمليات باريس. الضاحية الجنوبية. جوامع الكويت والسعودية. إلخ إلخ.. هؤلاء منفذون صغار. شبّان مغسولو الأذهان والعقول والقلوب. ما يهمنا، كلنا، كيف أمكن لهؤلاء أن يكونوا قتلةً ومقتولين، من دون أن يرفَّ لهم رمش؟ من هو المسؤول عما وصل إليه هؤلاء الشبان من هذا الإنكار المرير للحياة "الدُّنيا" من أجل "وعد" الآخرة التي سيصعد إلى حُورِ عِيْنِها بجسده، وأجساد الآخرين، الممزَّقة مائة قطعة؟
الجواب الذي اجتمعت عليه النظم العربية، أو ما تبقى منها واقفاً على قدميه، هو استدعاء السلاح. الأمن. السجون، فإن لم تستطع، وحدها، فعل ذلك، استدعت من أجله "التحالف". كما يحصل حالياً مع داعش والغبراء في كل من العراق وسورية. وربما غداً في البلد التالي على لائحة "الدولة" التي صار يجوز لها أن تتقدم بطلب العضوية في جامعة الدول العربية والأمم المتحدة. لِمَ لا وهي تحكم رقعة، وبشراً، أكبر بكثير من عشر "دول" في الجامعة؟!
لا يسأل النظام العربي، القائم على أقدام آيلة للسقوط، نفسه الأسئلة التي أسَّست لظاهرةِ تكفيرٍ تتغذّى من نصوص على طاولة الدراسة، بسطات الكتب في الشوارع، أكثر الكتب مبيعاً في معارض الكتاب العربية. وحتى عندما يقرُّ أن المشكلة التي تواجه مجتمعاته، قبل هياكله الحكومية، تبدأ من عنده، لا يفعل شيئاً جديّاً حيالها. يظن أنها مشكلة تطرفٍ ضالٍ، ذهب في النص الديني بعيداً عن مقاصده، فيأتيها بـ "نَصه" الديني وعمامته السلطانية اللتين تريدان إعادة هذه "الفئة الضالة" إلى سواء السبيل، من خلال إطاعة "أولي الأمر"، وعدم جواز الخروج عليهم. هذا ما يهم. لا تخرجوا عليّ، فإن فعلتم ضربتكم بالحديد والنار، وزجَجت بكم في السجون، أما عدا ذلك، فاسرحوا وامرحوا في المجتمع، كما تشاؤون. تريدون هذه العظمة اليابسة؟ خذوها، إنها لكم!
وفي الأثناء، ينزوي النظام عن المجتمع وراء جبل. يرفع قصره بعيداً عن أنظار بشره (لكي لا يراهم) ويقول إن كل شيء على ما يرام، فيما فسدَته يمصّون دم الناس. لا ترى للنظام العربي وجوداً في الشارع، إلا في رجل الأمن الذي يحرس مصالح "الطبقة". أين الدولة؟ أقصد المؤسسات التي بناها الناس، بعرقهم ودمهم على مدى عمر "الدولة الوطنية"؟ إنها في جوف الحيتان. ولن يكون حظها حظ النبي يونس الذي قذفه الحوت من جوفه سالماً معافى. أما ماذا يجري في المجتمع، هناك في الأسفل، فليس مهماً. الذي يحصل هو ما نراه الآن. يترك المجتمع عرضة لأفكار التطرف والتكفير وكراهة الحياة ورسم العالم، بالأسود والأبيض (بل والأحمر) فسطاطين، لا ثالث لهما. هم (الفئة الناجية) والآخرون الكفَّار.
مشكلتنا، نحن الذين نؤمن بحق شعوبنا بالحياة والحرية والعدالة الاجتماعية، مركَّبة، وماراثونية: جبهة النظام الذي أكل المجتمع لحماً ورماه عظماً، وجبهة التطرف التي اختطفت أسماءنا وألوان وجوهنا، وألسنتنا، ولفَّقت قضيةً غير قضيتنا.