حرب الأيام السبعة

09 نوفمبر 2015

جيش الاحتلال في القدس يوم 10 حزيران 1967 (أ.ف.ب)

+ الخط -

المنتصر هو الذي يتساءل، أما المهزوم فيصمت و"يطنّش". هذه ليست مقولة لأحد. ولا حكمة سائرة، بل هي حالنا العربي مع إسرائيل. أو بالأحرى، حالنا مع أنفسنا. فالتساؤل لا يفيد أحداً بقدر ما يفيد المتسائل نفسه، ولا يضر "التطنيش" سوى "المطنِّش". والحال، فإن إسرائيل لا تفتأ تعود إلى حرب حزيران (يونيو) 67. إنها الحرب التي صنعت أسطورتها، أمام نفسها والعالم على السواء، فيما نادراً ما نعود نحن إلى ذلك الجرح. لم يبرأ جرحنا الحزيراني إلى يومنا هذا. طمرناه تحت طبقة سميكة من الصمت والتجاهل، والأسوأ: البروباغندا. لعودات إسرائيل الى تلك الحرب الفاصلة في تاريخنا وتاريخها (القصير على ما نأمل) أسباب لا تنقطع. منها اليوم فيلم وثائقي يعرض في مهرجان سينمائي في نيويورك بعنوان "أصوات محظورة"، للمخرجة الشابة مور لوشاي.

بعد عودة الجنود الإسرائيليين من جبهة حرب حزيران، التقى الكاتب الشاب (يومها) عاموس عوز وإبراهام شابيرا بعضهما. تمكَّن الكاتبان من تسجيل نحو 200 ساعة مع هؤلاء الجنود "الكيبوتسيين"، تحوَّل قسم منها شهادات في كتاب بعنوان "الأيام السبعة". سجَّل هذا الكتاب، على ما يبدو، انتشاراً واسعاً في صفوف الجمهور الإسرائيلي.. آنذاك، مع أن الرقابة حجبت نحو 70% من شهادات الجنود. ليس هذا الفيلم الوثائقي الأول الذي يتناول "نكسة حزيران" عند الطرف المنتصر.. فهناك العديد منها. إنه أحدثها، ولا أقول آخرها.

لو أن هذا الفيلم أُنجز بعيد الحرب مباشرةً لما تجاوز، كثيراً، حدود البروباغندا المطلوبة للحروب. كان الخطر داهماً. كان الإسرائيليون، وحلفاؤهم، موهومين بالعرب، والتزامهم الحقيقي بـ"القضية المركزية". كانوا يصدِّقون الدعاوى الإعلامية الرسمية، وقبضات الزعماء التي تتوعد "شذَّاذ الآفاق" بمصير مأساوي قريب، حيث لن يجدوا معه حجراً يلوذون خلفه. قد تكون هناك أفلام إسرائيلية من هذا الطراز أنتجت قبل الحرب، أو حتى بعدها بقليل. لست مختصاً بالسينما الإسرائيلية، لكني أتوقع، مبدأ عاماً، أن يكون التلويح بالخطر الداهم شعار أي عمل "تعبوي"، حتى عند من يتشدَّقون كثيراً بالمعايير المهنية للإعلام والدراما وما إلى ذلك، لكن "التعبئة" استثنائية، وليست نمطاً دائماً. هكذا، عندما جسَّت إسرائيل مياه الحياة السياسية والعسكرية العربية استرخت قليلاً. عرفت أن الخطر غير داهم، وأن حروب النظام العربي بينية أكثر مما هي مع عدو مشترك. وأن القوى التي يمكن أن تهدد هذا "الاستقرار" الأمني مع إسرائيل رهينة قوانين الطوارئ والسجون. فلا ضير، والحال، أن تتأمل إسرائيل ذاتها من موقع المرتاح والمتبطِّر.. بل والعاطل من المواجهة المباشرة. في حال كهذه، يحتمل المجتمع الإسرائيلي "نقد" عنفه. أو تقليب بعض الصفحات "غير الإنسانية" للجيش الأكثر أخلاقية في العالم، على حد وصف الإسرائيليين قوات "دفاعهم".

لكن، ماذا تكشف المخرجة الإسرائيلية مور لوشي في أصواتها المحظورة غير ما بتنا نعرفه عن تلك الحرب؟ ربما القليل. ربما لا شيء. لكنه يسجّل، مع ذلك، أن العمل على إنهاء الوجود البشري الفلسطيني ارتقى لدى الجنود إلى مرتبة الأمر. يقول جندي: لم تقل لنا الأوامر لا تُبقوا واحداً منهم، لكنها قالت لا تظهروا رحمة في التعامل معهم! يظهر الوثائقي مواطنين فلسطينيين أيديهم مرفوعة إلى الأعلى، ووجوههم إلى الجدار. كانوا رجالاً ونساء وأطفالاً يشحنون إلى نقاط تجمّع. دُفع كثير من هؤلاء إلى الضفة الشرقية لنهر الأردن، إلى مملكة فقدت جناحها الغربي (ما تبقى من فلسطين التاريخية)، بعدما عاد جنودها مهزومين ومذلين في حربٍ لم يجر التخطيط لها جيداً، كما أكدت الأيام التالية على "النكسة".. التي لم تؤد أغراضها في سورية، حسب الخطاب الإعلامي للنظام البعثي، لأن هدفها كان إسقاط النظام (وليس احتلال الجولان!) والنظام لم يسقط. أكثر ما استوقفني في هذا الوثائقي الصوت القائل: إنَّ مجتمعاً غير قادر على مصارحة نفسه بالحقيقة هو مجتمع في ورطة.. ورطة كبيرة.

أيّ والله.

 

E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن