01 فبراير 2019
حراك الريف المغربي بعد 20 يوليو..
تحوّلت مسيرة 20 يوليو/ تموز في مدينة الحسيمة المغربية إلى تاريخ متميز في يوميات "حراك الريف"، ذلك أنه على الرغم من المنع الرسمي للتظاهر، واستعمال القوات العمومية للغازات المسيلة للدموع لتفريق المتظاهرين، واعتقال بعض النشطاء، تمكّن المحتجون من إنجاح مسيرات متعدّدة، محافظين على الطابع السلمي لنضالهم، ومستفيدين من تضامن مواطنين حجّوا من مدن بعيدة، فضلاً عن دعم عدد من أحزاب اليسار والنقابات العمالية والجمعيات الحقوقية.
ما وقع يوم 20 يوليو في الحسيمة لا يعني، في دلالاته، سوى أن الدولة لا تواجه حركة احتجاجية بطابع فئوي، تحتاج إلى تسوية نقابية لإخماد وهجها، أو حركة احتجاجيةٍ بهويةٍ نخبوية، لا تحتاج سوى إلى محاولة لتحييد قياداتها أو للالتفاف على مطالبها. بل يعني أن الدولة كانت في مواجهةٍ مباشرة مع المجتمع، مع النساء والشيوخ والشبيبة. بالتأكيد أنها لم تكن أمام مجرّد نشطاء ميدانيين تمرّسوا على استراتيجية الشارع، بل وجدت نفسها أمام نفسٍ نضالي شعبي عميق، يبطل كل آثار المقاربة القمعية، ويجعلها محدودة الوقع. وهذا ما يعني أن السلطة فشلت في عزل الدينامية الاحتجاجية، انطلاقاً من استثمار مواردها الرمزية، الأكثر تغذية للمشروعية وللمشترك الاجتماعي، سواء باسم الوطن (خطاب الانفصال)، أو باسم الدين (خطاب الفتنة). كما فشلت في إخماد هذه الدينامية، بتشويه قيادييها، والتشكيك في خلفياتهم ومحاولة إذلالهم، واعتقالهم، وزرع مناخ التخويف والتهديد والتعذيب.
لذلك، انتصرت دينامية الاحتجاج، حتى قبل مسيرات 20 يوليو، لأن السلطة كانت قد جرّت إلى المربع الضيق للعبة اختبار القوة مع الشارع، عبر الرهان على بيان المنع الأمني، ثم على تغطيته السياسية.
أخطاء السلطة في تدبير الملف، والانتهاكات الواضحة لحقوق الإنسان في التعاطي مع
المحتجين، والتزايد المتواتر للائحة المعتقلين، أمورٌ ساهمت بقوة في استنزاف شعارات المصالحة، والتشكيك في كل وعود دستور 2011، وإنهاك مقولات العهد الجديد. فبطريقةٍ درامية، استطاع حراك الريف أن ينهك المقولات التأسيسية للدولة، انطلاقاً من "المفهوم الجديد للسلطة"، ووصولاً إلى"إعمال دستور 2011"، مروراً بـ "الإنصاف والمصالحة" و"الجهوية الموسعة" و"المشروع الحداثي الديمقراطي". ستحتاج الدولة إلى مجهود أكبر لصناعة وعود جديدة، وأكثر من ذلك، ستحتاج إلى مصداقيةٍ كثيرة لكي يتجاوب المجتمع مع هذه الوعود.
لذلك، أصبحت خيارات الدولة أكثر محدودية، ولعل أعقلها خيار التفاعل مع الحراك طلباً على الكرامة، وهو ما يعني الانحياز إلى معالجة سياسية، تقترح تعاقداً جديداً، وتفتح أفقاً جديداً للديمقراطية، مع مدخل حقوقي يوفر، عبر إطلاق سراح المعتقلين، المناخ السياسي الملائم لخطاب العرش ليوم 30 يوليو الذي ينتظره المغاربة، كما لو كانوا ينتظرون الخطاب الأول للملك، بحثاً عن الأمل.
في المقابل، أفق الاحتجاج في الحسيمة واضح، وقيادته متمسّكة بسقفه السياسي ومضمونه النضالي، في مواجهته، طبعاً، تنتصب فخاخ كثيرة. إذ بحرفية يتم تحوير الموضوع تارة، نحو قضايا عرضيةٍ تعالج بتهويل مقصود، وتارة أخرى نحو تحويل المطالب إلى صراع مباشر مع المؤسسة الملكية.
تعرف دينامية الاحتجاج جيداً كيف تتفادى بذكاء السقوط في الصورة المتخيلة التي تصنعها أذرع السلطوية: حراك بأجندة خارجية، يستهدف الوحدة الوطنية، ويعادي المؤسسة المركزية.
ورثة الاستعمار وأصحاب المصالح، أو "القوة الثالثة" في المغرب (بلغة محمد عابد الجابري) جربت، في مواجهة القوى الديمقراطية منذ الاستقلال، الترحال بين هاتين الحجتين المتهالكتين: التنسيق مع الخارج، والمؤامرة على الملكية.
وهي لا تملك خيارات أخرى، ليس بسبب عجز فادح في الخيال. ولكن أساساً لأنها الأقرب إلى
الخارج، بنية ونشأة، ولأنها الأقرب إلى المؤامرة، كما أثبت التاريخ السياسي ذلك.
حراك الريف وخزة حادة في ضمير الدولة والنخب في المغرب، وهي بالنسبة إلى الملكية فرصة جديدة لاستئناف مسار الإصلاح السياسي العميق، وللإنصات إلى نداء الكرامة الصاعد مباشرة من قلب المجتمع، بعيداً عن نفاق النخب وتكلس المؤسسات.
في دروس حراك الريف، كذلك، هناك حاجة إلى إعادة تعريف السياسة المغربية.
عندما تصبح مقاعد الحكومة المكان الوحيد لممارسة الأحزاب السياسة، يتحول الشارع إلى المكان الوحيد لممارسة المجتمع للسياسة.
وعندما يصبح التقاط إشارات الملك الطريقة الوحيدة لممارسة الأحزاب السياسة، يتحوّل الحديث المباشر مع الملك إلى الطريقة الوحيدة لممارسة المجتمع للسياسة. لذا ثمة حاجة حيوية لأن تصبح السياسة عند الأحزاب هي التفاعل مع المجتمع، وليس تدبير العلاقة مع الدولة. وأن يصبح مضمون السياسة هو تنافس الخيارات الاجتماعية وتفاعل "السياسات" المقترحة، تجاوباً مع الطلب الوارد من "تحت". أن يصبح هاجس السياسيين هو المجتمع، وليس هو الدولة أولاً، وذواتهم ثانياً وأخيراً.
إذا كانت الدولة لا تملك، من حيث الموارد الاقتصادية، الثمن الضروري للسلم الاجتماعي، فالطلب اليوم غير صادر عن نقاباتٍ ومنظمات مهنية، بل هو طلب يوجد خارج منظومة الإنتاج، فضلاً عن أنه بعيد عن محدّدات الحوار الاجتماعي التقليدي، ويحمله مخاطبون جدد (حركات اجتماعية، تعبيرات احتجاجية)، ويحيل إلى عجز اجتماعي عميق وواسع.
في المقابل، هي تملك، من حيث الموارد السياسية، الثمن الضروري لتعاقد سياسي جديد، لا يسمح بشكل سحري بحل كل تعقد المسألة الاجتماعية، لكنه سيسمح ببناء فضاء عمومي للتداول في الخيارات الاجتماعية، والتفاوض حولها، وسيسمح بالأهم: بناء مناخ للثقة بين المجتمع والدولة.
ما وقع يوم 20 يوليو في الحسيمة لا يعني، في دلالاته، سوى أن الدولة لا تواجه حركة احتجاجية بطابع فئوي، تحتاج إلى تسوية نقابية لإخماد وهجها، أو حركة احتجاجيةٍ بهويةٍ نخبوية، لا تحتاج سوى إلى محاولة لتحييد قياداتها أو للالتفاف على مطالبها. بل يعني أن الدولة كانت في مواجهةٍ مباشرة مع المجتمع، مع النساء والشيوخ والشبيبة. بالتأكيد أنها لم تكن أمام مجرّد نشطاء ميدانيين تمرّسوا على استراتيجية الشارع، بل وجدت نفسها أمام نفسٍ نضالي شعبي عميق، يبطل كل آثار المقاربة القمعية، ويجعلها محدودة الوقع. وهذا ما يعني أن السلطة فشلت في عزل الدينامية الاحتجاجية، انطلاقاً من استثمار مواردها الرمزية، الأكثر تغذية للمشروعية وللمشترك الاجتماعي، سواء باسم الوطن (خطاب الانفصال)، أو باسم الدين (خطاب الفتنة). كما فشلت في إخماد هذه الدينامية، بتشويه قيادييها، والتشكيك في خلفياتهم ومحاولة إذلالهم، واعتقالهم، وزرع مناخ التخويف والتهديد والتعذيب.
لذلك، انتصرت دينامية الاحتجاج، حتى قبل مسيرات 20 يوليو، لأن السلطة كانت قد جرّت إلى المربع الضيق للعبة اختبار القوة مع الشارع، عبر الرهان على بيان المنع الأمني، ثم على تغطيته السياسية.
أخطاء السلطة في تدبير الملف، والانتهاكات الواضحة لحقوق الإنسان في التعاطي مع
لذلك، أصبحت خيارات الدولة أكثر محدودية، ولعل أعقلها خيار التفاعل مع الحراك طلباً على الكرامة، وهو ما يعني الانحياز إلى معالجة سياسية، تقترح تعاقداً جديداً، وتفتح أفقاً جديداً للديمقراطية، مع مدخل حقوقي يوفر، عبر إطلاق سراح المعتقلين، المناخ السياسي الملائم لخطاب العرش ليوم 30 يوليو الذي ينتظره المغاربة، كما لو كانوا ينتظرون الخطاب الأول للملك، بحثاً عن الأمل.
في المقابل، أفق الاحتجاج في الحسيمة واضح، وقيادته متمسّكة بسقفه السياسي ومضمونه النضالي، في مواجهته، طبعاً، تنتصب فخاخ كثيرة. إذ بحرفية يتم تحوير الموضوع تارة، نحو قضايا عرضيةٍ تعالج بتهويل مقصود، وتارة أخرى نحو تحويل المطالب إلى صراع مباشر مع المؤسسة الملكية.
تعرف دينامية الاحتجاج جيداً كيف تتفادى بذكاء السقوط في الصورة المتخيلة التي تصنعها أذرع السلطوية: حراك بأجندة خارجية، يستهدف الوحدة الوطنية، ويعادي المؤسسة المركزية.
ورثة الاستعمار وأصحاب المصالح، أو "القوة الثالثة" في المغرب (بلغة محمد عابد الجابري) جربت، في مواجهة القوى الديمقراطية منذ الاستقلال، الترحال بين هاتين الحجتين المتهالكتين: التنسيق مع الخارج، والمؤامرة على الملكية.
وهي لا تملك خيارات أخرى، ليس بسبب عجز فادح في الخيال. ولكن أساساً لأنها الأقرب إلى
حراك الريف وخزة حادة في ضمير الدولة والنخب في المغرب، وهي بالنسبة إلى الملكية فرصة جديدة لاستئناف مسار الإصلاح السياسي العميق، وللإنصات إلى نداء الكرامة الصاعد مباشرة من قلب المجتمع، بعيداً عن نفاق النخب وتكلس المؤسسات.
في دروس حراك الريف، كذلك، هناك حاجة إلى إعادة تعريف السياسة المغربية.
عندما تصبح مقاعد الحكومة المكان الوحيد لممارسة الأحزاب السياسة، يتحول الشارع إلى المكان الوحيد لممارسة المجتمع للسياسة.
وعندما يصبح التقاط إشارات الملك الطريقة الوحيدة لممارسة الأحزاب السياسة، يتحوّل الحديث المباشر مع الملك إلى الطريقة الوحيدة لممارسة المجتمع للسياسة. لذا ثمة حاجة حيوية لأن تصبح السياسة عند الأحزاب هي التفاعل مع المجتمع، وليس تدبير العلاقة مع الدولة. وأن يصبح مضمون السياسة هو تنافس الخيارات الاجتماعية وتفاعل "السياسات" المقترحة، تجاوباً مع الطلب الوارد من "تحت". أن يصبح هاجس السياسيين هو المجتمع، وليس هو الدولة أولاً، وذواتهم ثانياً وأخيراً.
إذا كانت الدولة لا تملك، من حيث الموارد الاقتصادية، الثمن الضروري للسلم الاجتماعي، فالطلب اليوم غير صادر عن نقاباتٍ ومنظمات مهنية، بل هو طلب يوجد خارج منظومة الإنتاج، فضلاً عن أنه بعيد عن محدّدات الحوار الاجتماعي التقليدي، ويحمله مخاطبون جدد (حركات اجتماعية، تعبيرات احتجاجية)، ويحيل إلى عجز اجتماعي عميق وواسع.
في المقابل، هي تملك، من حيث الموارد السياسية، الثمن الضروري لتعاقد سياسي جديد، لا يسمح بشكل سحري بحل كل تعقد المسألة الاجتماعية، لكنه سيسمح ببناء فضاء عمومي للتداول في الخيارات الاجتماعية، والتفاوض حولها، وسيسمح بالأهم: بناء مناخ للثقة بين المجتمع والدولة.