جيش للقرى المصرية والمفاوضات لسد النهضة

05 سبتمبر 2020
السيسي يوقع على إنشاء سد النهضة في العام 2015 بالخرطوم
+ الخط -

تابعت تهديد الجنرال عبد الفتاح السيسي بإمكانية نشره قوات الجيش على كافة القرى المصرية لإزالة الأبنية المقامة على الأراضي الزراعية والمخالفة للقانون، واعتبر أن الاعتداء على أراضي الدولة لا يقل خطورة عن سد النهضة الإثيوبي، وقال إنه أحضر معدات هندسية تكفي لإبادة وإزالة كل التعديات، وذلك وفق تعبيره خلال افتتاحه بعض المشاريع في محافظة الإسكندرية شمال القاهرة يوم السبت 29 أغسطس/آب.

تشبيه السيسي البناء على الأرض الزراعية بسد النهضة هو تشبيه صحيح من حيث النتائج. فكلاهما يقوض الأمن الغذائي ويحول دون زراعة المحاصيل وإنتاج الغذاء. والبناء على الأرض الزراعية يقضي على التربة ومهد البذرة. وكذلك سد النهضة يقطع الماء اللازم لري المحاصيل ويسلب مصر سر حياتها وعماد نهضتها.

ولكن المدهش هو التعامل الأهوج مع المباني المقامة على الأرض الزراعية بالتدمير والهدم باستخدام الجيش والمعدات الهندسية، في مقابل التعامل مع أزمة سد النهضة بالمفاوضات العبثية واستبعاد القوة العسكرية والمعدات الهندسية التي يستخدمها ضد شعبه في إزالة السد كبناء عدواني يخالف القوانين الدولية، رغم أنه جنرال عسكري منوطة به حماية نهر النيل والحفاظ عليه بكل السبل وفق الدستور الذي وضعه على عينه.

والواقع أن السيسي لا يمنع المواطن من اقتراف الجريمة قبل ارتكابها، بل يهمله أو يمهله حتى ينتهي من البناء بعد إنفاق أموال ضخمة، ثم يقوم بهدم المبنى بعد اكتماله ويدمر شقاء عمره بالقوة البوليسية والعسكرية القاهرة، رغم أن الأرض لن تعود إلى طبيعتها ويستحيل مرة أخرى زراعتها، والقاعدة تقول إن الضرر لا يزال بمثله.

ولما كان السيسي يقوم بالاستيلاء على الأراضي المملوكة للدولة من أجل بيعها مرة أخرى للمواطن، فلماذا يصر على هدم المبنى المقام أولا وبعد الاستيلاء على الأرض يعيد طرحها للبيع مرة أخرى، ولماذا لا يترك المبنى الذي أقامه المواطن ويكتفي بتحصيل ثمن الأرض منه، سيما أن المواطن هو نفسه من سيشتري الأرض بعد طرحها للبيع؟!

ورغم أن الجنرال يساوي بين المواطن المصري الذي يضطر للبناء على أرضه الزراعية بسبب سياسات حكومية فاسدة، وبين الحكومة الإثيوبية التي تبني سد النهضة، فإنه يتعامل مع المزارعين المسالمين بالحل العسكري، ومع إثيوبيا التي أعلنت الحرب على مصر بالمفاوضات.

سياسة السيسي تذكرنا برصد عبقري الجغرافيا المصري، جمال حمدان، لسياسة النظام الحاكم في مصر تجاه الشعب في الجزء الرابع من كتابه شخصية مصر دراسة في عبقرية المكان، بقوله: "كانت مصر مجتمعا مدنيا يحكمه العسكريون، وبالتالى كانت وظيفة الجيش الحكم أكثر من الحرب، ووظفية الشعب التبعية أكثر من الحكم".

وفى ظل هذا الوضع الشاذ المقلوب، يقول حمدان، كثيرا ما كان الحاكم الغاصب يحل مشكلة الأخطار الخارجية بالحل السياسي، وأخطار الحكم الداخلية بالحل العسكري، أي أنه كان يمارس الحل السياسي مع الأعداء في الخارج، والحل العسكري مع الشعب في الداخل، فكانت دولة الطغيان كالقاعدة العامة: استسلامية أمام الغزاة بوليسية على الشعب.

إنه وصف دقيق للحكم المقلوب في مصر في العصور الغابرة والحاضرة أيضا. الجنرال العسكري يجيش قواته لسلب أراضي الدولة من أبنائها، ويهدم المباني على رؤوس أصحابها، ثم يقف أمام العدو حملا وديعا يستجديه بشفقة ألا يقطع مياه النيل، ولما فعل وقطعها قال قد حزمنا أمرنا وعزمنا ألا نسلك إلا طريق المفاوضات السلمية!

 

محاباة الأغنياء

في فبراير 2016، أصدر الجنرال السيسي قرارا جمهوريا يقضي بتشكيل لجنة من أجل "استرداد" أراضي الدولة المنهوبة برئاسة إبراهيم محلب، مستشار رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء الأسبق. وتضمن القرار إخطار جهات التحقيق بالجرائم التي تشكل عدواناً على المال العام لتحصيل مستحقاتها ومعاقبة مرتكبيها. وكان مخططاً لهذه الأراضي أن تستصلح وتستزرع، ولكنها تحولت بفضل فساد الجهات الحكومية إلى منتجعات سياحية وملاعب جولف وقصور في الساحل الشمالي وعلى طريق القاهرة الإسكندرية الصحراوي.

ولما كان الاستيلاء على هذه الأراضي مقصورا على الطبقة البرجوازية المقربة من السلطة الفاسدة، والتي يستحيل أن يكون من بينها من ينتمي لطبقة الفقراء والبسطاء من الطبقة المتوسطة، قررت لجنة محلب فتح باب "التصالح والتسهيلات" لمن استولى على الأراضي الزراعية وحولها إلى منتجعات وقصور في الأماكن الاستراتيجية، وتقنين أوضاعهم وسداد مستحقات الدولة عن تغيير نشاط الأرض وفق تسهيلات وتأكيدات بعدم المغالاة في تقدير ثمنها، وتوفير نظام الشباك الواحد لاختصار إجراءات التقنين والتغلب على الروتين الحكومي المعطل، وفق تصريحات محلب.

مثال آخر للكيل بمكيالين ومحاباة الأغنياء على الفقراء، في سنة 2001، اشترت شركة كويتية شهيرة، وفي مجلس إدارتها رئيس وزراء سابق، أرضا زراعية مساحتها 26 ألف فدان بمنطقة العياط جنوب محافظة الجيزة، بسعر 200 جنيه للفدان بغرض الاستثمار الزراعي، لكنها قامت بتسقيعها وتحويلها إلى الاستثمار العقاري ولم تدفع سوى 5 ملايين جنيه. وفي سنة 2013 رفضت الحكومة التصالح مع شركة مقابل مبلغ 13 مليار جنيه، وقدرت قيمتها الحقيقية بـ47 مليار جنيه، وقررت رد ثلاثة آلاف فدان لوزارة الآثار. وفي عهد السيسي، أوقفت الحكومة مطالبة الشركة بالمبلغ المستحق عليها، وامتنعت عن هدم المباني المقامة عليها، ولم ترد الأرض لأصلها.

 

تدمير متعمد

لم يستعمل السيسي السياسة الناعمة التي حظي بها المقربون منه مع الفقراء الذين وضعوا أيديهم على مساحات صغيرة من أراضي الدولة لزراعتها، أو قاموا بالبناء على أمتار معدودة من الأرض الزراعية المملوكة لهم، ولم يحصل مبالغ مالية مقابل تغيير نشاط الأرض من زراعية إلى سكنية كما فعل مع أصحاب القصور والمنتجعات.

الأكثر من ذلك أن السيسي أمر اللواء كامل الوزير، رئيس الهيئة الهندسية السابق في 12 مايو/أيار سنة 2016، بنزع 300 ألف فدان من الأراضي الزراعية خلال شهر واحد وطرد أصحابها وضمها إلى مشروع المليون ونصف فدان الذي أعلن عنه في 2014. رغم أن أصحابها قاموا باستصلاحها على نفقتهم الخاصة وزراعتها بنظام وضع اليد قبل عشرات السنين.

وهدمت الهيئة الهندسية للقوات المسلحة بيوت الأهالي دون إنذار، ودمرت آبار المياه التي استخدموها في ري أراضيهم في محافظات قنا والمنيا ومرسى مطروح والواحات البحرية، ورفض السيسي تقنين أوضاعهم كما فعل مع مستثمري الطريق الصحراوي. وبذلك يحرم السيسي المزارعين الفقراء من الخروج لزراعة الأراضي الصحراوية، ويضيق عليهم البناء في الأراضي الزراعية.

وفي سنة 2016، أصدر وزير الزراعة قرارا يسمح لأول مرة بالتوسع في استخدام الأراضي الزراعية في إنشاء الطرق والسلاسل التجارية والمولات التي تقيمها الحكومة، ومحطات الغاز والبنزين، ومحطات تقوية شبكات التليفون المحمول، ومحطات توليد وإنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية أو الرياح، وهي الأنشطة التي بدأت القوات المسلحة الاستثمار فيها في عهد السيسي ولم يكن يسمح لها أن تستخدم الأراضي الزراعية لهذه الأغراض في الماضي.

و

تقارير عربية
التحديثات الحية

بعد أسابيع من القرار، استخدمت القوات المسلحة القانون الجديد في نزع ملكية ألاف الأفدنة وشق الطرق الطويلة والعريضة على أراضي الدلتا الخصبة والتي تكونت عبر ملايين السنين، ويستحيل تعويضها مرة أخرى. فأقامت طريق شبرا بنها بطول 40 كيلومترا وعرض يقترب من 100 متر، ما دمر نحو ألف فدان من أراضي الدرجة الأولى وهي أجود أنواع الأراضي الزراعية في العالم من أجل تحصيل مقابل مرور السيارات لصالح الجيش. وأقامت الطريق الدائري الاقليمي حول مدينة القاهرة الكبرى بطول 400 كيلومتر، وغيره من المناطق والمولات التجارية الضخمة على الأراضي الزراعية.

 

سياسة منحرفة

تقوم خطة السيسي ببناء وحدات سكنية في مشاريع الإسكان الاجتماعي بأعداد محدودة لا تلبي حجم الطلب المتزايد عليها، ولا يقل سعرها عن 600 ألف جنيه، وهو مبلغ ضخم لا تقدر عليه الأسرة الميسورة فضلا عن الأسر الفقير التي تحتاج بشدة لمسكن يلبي زيادة أعداد أبنائها. ويرجع سبب ارتفاع أسعار وحدات الإسكان الاجتماعي إلى تدخل الهيئة الهندسية للقوات المسلحة باحتكار البناء في المشروع والمبالغة في احتساب التكلفة وهامش الربح، وانتشار الفساد المحيط بالمشروع في ظل غياب الشفافية وعدم إمكانية الرقابة المالية من الجهاز المركزي للمحاسبات على مشروعات الجيش.

وبجانب الوحدات السكنية المحدودة يقوم ببناء أعداد وفيرة من الوحدات السكنية باهظة الثمن، ويصل سعر المتر فيها إلى 8 آلاف جنيه، ويتخطى سعر الوحدة مبلغ المليون جنيه. في حين أن الأسرة يمكنها التأسيس لبناء منزل جديد مكون من عدة شقق وبنفس التكلفة تقريبا ودون زيادة فوائد على التكلفة الأصلية، ما يجعل الإقبال على شراء الوحدات السكنية بهذه الأسعار مستحيلا. ويبقى الحل الأمثل للمشكلة في احترام حق المزارعين في بناء مسكن لائق لهم ولأبنائهم، وكذلك تمكينهم من التوسع الأفقي في الظهير الصحراوي للمحافظات.​


 

 

المساهمون