ينتحل البعض شخصيات لأناس بعينهم أو لوظائف محدّدة، ففي نيويورك مثلاً يعتقل مئة كلّ عام ينتحلون شخصية ضابط شرطة، بينما ينتحل البعض شخصيات ثرية أو مشهورة، وثمة من يشبه أحد النجوم فيتصرف مثله في الأماكن العامة ويقلّده ليلتبس الأمر على الناس، والحقيقة أن أسباب هذه الانتحالات مفهومة بعض الشيء وربما طريفة أيضاً، وهي الرغبة في ممارسة سلطة مؤقتة ما أو الاحتيال أو لفت الأنظار والاهتمام أو الحصول على شيء من بريق الشهرة، لكن كيف يمكن أن نفهم مسألة انتحال عرق؟
أجل، هذه الواقعة الغريبة تشغل وسائل الإعلام الأميركية والبريطانية منذ أيام، فالكاتبة والمؤرخة الأميركية جيسيكا كروغ أعترفت فجأة أنها ليست من أصول سوداء كما كانت تدعي لسنوات، بل إنها امرأة يهودية بيضاء من مدينة كنساس سيتي.
تبرعت ناشرتها بكل أرباح كتبها لجمعية تدعم الباحثين السود
الواقعة التي حدثت الأسبوع الماضي وسُجلت في موسوعة ويكبيديا على الفور تحت عنوان "فضيحة أكاديمية"، فجرتها الناشطة وأستاذة التاريخ الأفريقي الأميركي بـ"جامعة جورج واشنطن"، وأثارت ردود الفعل والمواقف فطالبها زملاؤها بالتنحي عن عملها، وأعلنت ناشرتها تبرّعها بكلّ أرباح كتبها لجمعية تدعم الباحثين السود، وخرج رجال كانوا أصدقاءها باحثين عن الشهرة من خلال تقديم المزيد من المعلومات الخاصة عنها كامرأة.
الأسئلة كثيرة ولا زالت غير مفهومة، لماذا فعلت كروغ ذلك؟ هناك من يقيس ادعاءها بالمكاسب التي حصلت عليها، فقد تلقّت كروغ الدعم المالي من مؤسسات ثقافية مثل "مركز شومبورغ للأبحاث في الثقافة السوداء" لكتاب كتبته عن مقاومة الهاربين لتجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي. ولكن وفقًا لمنشور على موقع "ميديام" كتبته كروغ نفسها، فإن حياتها المهنية كانت متجذرة في "تربة سامة من الأكاذيب". بعض من كانوا مقرّبين منها وصفوها بالمريضة، أما الجامعة فقد ألغت كلّ المواد التي كانت تدرّسها كروغ قبل أن تدعوها إلى الاستقالة، والتي قدمتها بالفعل.
كتبت كروغ أن حياتها المهنية كانت متجذرة في "تربة سامة من الأكاذيب"
كروغ ادعت بلغة آسفة في منشورها أنها زوّرت لنفسها هويات خلطت فيها بين شمال أفريقيا وسواد البرونكس المتجذر في الكاريبي، وقالت "تحملت هويات داخل ظل أسود لا يحق لي المطالبة بها". أولاً، سواد شمال إفريقيا، ثم سواد متجذر في الولايات المتحدة، ثم سواد برونكس المتجذر في الكاريبي".
وكانت "دار ديوك" نشرت لها كتاب "الحداثات الهاربة" الذي احتفي به بشكل كبير ووصل إلى القائمة القصيرة لعدّة جوائز أكاديمية مرموقة. وتحدّثت جيزيلا فوسادو من الدار عما وصفته بـ "الاستيلاء المخادع والضار على مدى عقود من كروغ"، منتقدة كيف أن الأكاديمية "نشرت الصور النمطية العنصرية الجسيمة لبناء هويتها المزيفة، وقرنتا نفسها بها لتصير جزءاً من الدوائر السوداء واللاتينية التي تطفلت عليها".
وقالت فوسادو: "هناك ألم شخصي من وجود شخص ينتحل هويتك بأكثر الطرق عنصرية، من خلال بناء الصور النمطية". "هناك أيضًا شعور مخجل بأنني، بصفتي شخصًا جاهد لدعم عملها، وساعدت في نشر عمل حصلت عنه في وقت مبكر من حياتها المهنية على التمويل والفرص الأخرى التي كانت مخصّصة للباحثين غير البيض".
هذه الباحثة التي كتبت في إهداء كتابها "الحداثات الهاربة" قائلة "أشكر أجدادي، المجهولين الذين لم يتم الكشف عن أسمائهم، الذين نقلوا الحياة إلى مستقبل لم يكن لديهم سبب للاعتقاد بأنه يمكن أو يجب أن يوجد. أخي الأسرع والأذكى والأكثر سحرًا بيننا جميعًا. أولئك الذين لا أستطيع ذكر أسمائهم من أجل سلامتهم في الحي الذي أسكنه، في أنغولا، في البرازيل".
هناك ألم شخصي من وجود شخص ينتحل هويتك بأكثر الطرق عنصرية
وذكرت فوسادو أن المرة الأولى التي كذبت فيها الأكاديمي عليها كانت في عام 2017 عندما أخبرتها أنه يجب نطق اسمها كروز، وروت "قصة خيالية لكيفية وصول أجدادها إلى هذا البلد من منطقة البحر الكاريبي وكيف ارتكب مسؤولو الهجرة خطأً في كتابة اسمهم الأخير ".
قالت هاري زياد، رئيسة تحرير موقع RaceBaitr، وهو موقع إلكتروني نشرت فيه كروغ مقالات، إنها لم تتقدم بالكشف عن خداعها العرقي إلا لأن الآخرين اكتشفوها وكانوا على وشك الإعلان عن ذلك ضد رغباتها. "إنها لم تفعل ذلك بدافع الخير، لقد فعلت ذلك لأنه تم اكتشافها".
الآن، بدأ التشكيك يطال نتاج كروغ وأبحاثها وتدريسها، وقال الأستاذ المساعد لدراسات الشتات العالمي في "جامعة ولاية ميتشيغان" يوميرا فيغيروا إن كروغ "استحوذت على القليل جدًا - القليل جدًا - من الموارد والمساحات المتاحة للباحثين السود واللاتينيين واستخدمتها لصالحها".
ليس هذا فقط، فقد كتب الصحافي الأسود كيسي جين ماكالا في مدونته عن تعرّضه للتنمر الإلكتروني من قبل كروغ لكونه نصف أبيض، وطالب بأن يخضع الأكاديميون زملاءها إلى المساءلة أيصاً، فهل يكفي أن يتحدث أحد ضد البيض، ليكون هذا الشرط الوحيد للقبول على أنه مثقف أسود؟"
أما الصحافي إد غارسيا كوندي، فذكر أنها "في العام الماضي حضرت مهرجان بورتوريكو السنوي في شرق هارلم. وكانت ترقص السالسا مع علم بورتوريكو معلق على ملابسها. حسناً بدت كواحدة منا.كم عدد المنح والفرص التي سرقتها بالمرور على هذا النحو، كم عدد اللاتينيين الأفرو الحقيقيين الذين فاتتهم فرصة حاسمة للتقدم في حياتهم المهنية بسبب أنها استحوذت على ثقافة ليست لها؟".
رغم كلّ ملابسات الانتحال، والقول بالمكاسب التي حققتها كروغ، لكن لا بد أن فرصاً كثيرة كانت أمام كروغ كباحثة يهودية بيضاء، فلماذا اختارت أن تنافس على المساحة القليلة الممنوحة للباحثين السود؟