قضى جوليان حياته عشقاً للإسلام حاملاً رسالته التي تملأ فراغ الروح، ويأتي بعد رحيله بأقل من أسبوع من يقضي (مع آخرين) على كل ذلك بكبسة زناد على قاذف صواريخ أو بندقية. لعلّها الأقدار تعلن هزيمتها للفنان الفرنسي المسلم أخيراً، وقد قضى عمره يعاندها ويخالف ما رسمت له في طفولته.
تنبأ له كبار الفنانين بأنه سيصبح نجماً من نجوم البوب والجاز في فرنسا، فكان رسول الموسيقى التقليدية العربية والتراث العربي الصوفي إلى عواصم العالم وفي مقدمتها عاصمة بلاده باريس، عبر فرقته الخاصة التي حملت هي الأخرى اسم العلّامة العربي المعروف أبو يوسف الكندي.
ومن المعهد الموسيقي في باريس الذي التحق به عام 1966، ليتعلم العزف على آلة القيثارة الكلاسيكية، تخرج نجماً شهيراً في العزف على القيثارة. لكنه ترك شهرته تلك خلفه، وسعى ليتعلم العزف على آلة العود، قبل أن يغادره هو الآخر نحو آلة القانون ليصبح واحداً من أشهر عازفيها، بل ومن أهم مطوريها.
فقد استطاع بعد دراستها لعدة سنوات، أن يطور آلة قانون جديدة تضم 201 وتر موسيقي، بدلاً من 87، وهو ما ساهم، بحسب أهل الاختصاص بـ"توسيع قدرات الآلة إلى خمسة أوكتافات".
ومجدداً هجر جوليان شهرة جعلت هوليوود وشركاتها السينمائية تلاحقه بعروض مغرية لن تقلّ إغراء عما حملته مقطوعات موسيقية كلاسيكية للقيثارة، ألّفها وحققت أسطواناتها أعلى الأرقام في المبيعات في فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة. هجر كل ذلك ليجلس في حي حلبي قديم، وربما منسي على خارطة هذا العالم ليستمع إلى الإنشاد الديني في حلقة ذكر ويملأ "الفراغ الذي تزداد مساحته اتساعاً في أعماقي" على حد تعبيره.
وحين امتلأ الفراغ الروحي في جوليان، صرخ الرجل في حضرة عازف العود العراقي الشهير منير بشير على طريقة أرخميدس "وجدتها.. هذه الموسيقى التي أبحث عنها...". كان يريد القول لنا إنّ القوة التي نحتاج إليها لنتفوق على "كثافة" أرخميدس، هي التي تنبع من أعماق القلب والروح، وأي شيء قادر على نبش تلك الأعماق أكثر من الموسيقى الصوفية وأوتار القانون.
كانت المصادفة قد جمعت جوليان ومنير بشير في تونس، مستمعاً كان جوليان لعزف بشير، وكان هذا الأخير يغرف من أوتار العود روحاً ويدلق على روح جوليان شهوة الحياة. تلك الشهوة التي سرعان ما ستدفعه نحو هجر القيثارة الغربية ليلازم بشير ويتفرغ لتعلم العزف على العود.
فآلة القانون التي بدت أنها القادرة فقط على أن تروي شغف الروح فيه، شغفاً بدا سبباً كافياً ليقوم منير بشير بتأليف قطعة موسيقية باسم فايس، ليقوم هذا الأخير بمغادرة باريس في رحلة بحث عن المعنى الحقيقي للنغم. قال جوليان في حوار صحافي: "كنت أشعر بأنّ عالماً فنياً آخر يناديني ويجب أن أبحث عنه، لذلك رفضت كل عقود العمل المغرية، ولم أكترث للشهرة التي حققتها كعازف قيثارة، وبدأت رحلة البحث عن ذلك العالم..".
رحلة البحث ساقت جوليان إلى حلب في الشمال السوري، وهناك كان على موعد مع أقدار اختارته واختارها أيضاً. كان الرجل قد قضى وقتاً في زيارة المدينة القديمة، ينهل من إرثها الفني العريق ومتتبعاً كنوز الألحان الشرقية فيها، ولا سيما تلك التي حملتها الذاكرة الشفاهية.
وبينما كان يستعد لمغادرة المدينة ناداه قدره بالبقاء حين تناهت إلى سمعه من مسجد صغير أصوات أناشيد ومدائح نبوية، فدلف إلى المسجد، وهناك على إيقاع أصوات عذبة بلا موسيقى، كان يردم آخر ما تبقى من فراغ الروح فيه.
لطالما كان جوليان يردد "لا بد من وجود فن مختلف، فن يملأ الفراغ الذي تزداد مساحته اتساعاً في أعماقي". لعله في حلقة الذكر تلك وجد الفن الذي يبتغيه، وإلّا فما معنى أن يمزق الرجل بطاقة سفره إلى بلده ويقول: "في هذه المدينة سأبقى وأعيش"...؟ وما امتلأ في روح فايس كان يدفعه إلى نطق الشهادتين وإعلان إسلامه، بل وصياغة اسمه الجديد "جوليان جلال الدين" الذي اختاره مأخوذاً بالشاعر المتصوف جلال الدين الرومي.
أن يختار الفرنسي جوليان فايس أبوة جلال الدين الرومي يعني أن ينذر حياته في اقتفاء أثر المتصوفة وإعلاء شأن موسيقى غازلت روحه، فأراد مغازلة العالم عبرها، فشكّل فرقته "مجموعة الكندي" التي تألفت من تخت شرقي ضم عازفين على آلات القانون والعود والناي، إضافة إلى آلتي الدف والطبل.
وعبر الفرقة، حمل الموسيقى العربية التقليدية إلى العالم وعرّف الغرب بأصوات عربية شهيرة في عالم الإنشاد الديني والغناء الصوفي، من بينها رئيس جماعة الدراويش الصوفية الشيخ حمزة شكور، والمؤذنان الشهيران صبري مدلل وعمر سرميني، ومغني حلب أديب الدايخ.
سرعان ما توسعت مجموعة الكندي بعد شراكة جوليان مع الشيخ حمزة شكور، إذ أسّس الاثنان ثنائياً مبدعاً جال العالم ليقدم الأناشيد والابتهالات الدينية والقدود الحلبية والموشحات الأندلسية والمقامات العراقية، فضلاً عن قصائد أشهر شعراء الصوفية وعروض المولوية على إيقاعها، ومعاً كانا يسجلان، بحسب مصادر إعلامية، "رقماً قياسياً في عدد الحفلات التي تحييها فرقة عربية غنائية خارج العالم العربي".
في حوار صحافي لشريك جوليان الفني، الشيخ حمزة قال: "عندي سبع لغات: الأولى اللغة العربية ،الثانية لغة الموسيقى، الثالثة لغة العيون، والرابعة لغة الروح، والخامسة لغة الحس، والسادسة لغة التعبير والسابعة لغة الصمت". ولعلّ المتتبع لسيرة جوليان وموسيقاه يدرك أن ما كان يبحث عنه هذا الأخير ووجده، هو كيان واحد اجتمعت فيه تلك اللغات السبع، إنّها الصوفية.
يُذكر أنّ جوليان فايس ولد عام 1953 لأم سويسرية وأب فرنسي، وقضى سنواته الأخيرة في منزل يعود إلى القرن السادس عشر في واحد من أحياء حلب القديمة، قبل أن يغادرها إلى إسطنبول، ومنها عاد إلى باريس حيث تلقى العلاج في مستشفياتها قبل أن يعلن موته يوم الجمعة الفائت.
تنبأ له كبار الفنانين بأنه سيصبح نجماً من نجوم البوب والجاز في فرنسا، فكان رسول الموسيقى التقليدية العربية والتراث العربي الصوفي إلى عواصم العالم وفي مقدمتها عاصمة بلاده باريس، عبر فرقته الخاصة التي حملت هي الأخرى اسم العلّامة العربي المعروف أبو يوسف الكندي.
ومن المعهد الموسيقي في باريس الذي التحق به عام 1966، ليتعلم العزف على آلة القيثارة الكلاسيكية، تخرج نجماً شهيراً في العزف على القيثارة. لكنه ترك شهرته تلك خلفه، وسعى ليتعلم العزف على آلة العود، قبل أن يغادره هو الآخر نحو آلة القانون ليصبح واحداً من أشهر عازفيها، بل ومن أهم مطوريها.
فقد استطاع بعد دراستها لعدة سنوات، أن يطور آلة قانون جديدة تضم 201 وتر موسيقي، بدلاً من 87، وهو ما ساهم، بحسب أهل الاختصاص بـ"توسيع قدرات الآلة إلى خمسة أوكتافات".
ومجدداً هجر جوليان شهرة جعلت هوليوود وشركاتها السينمائية تلاحقه بعروض مغرية لن تقلّ إغراء عما حملته مقطوعات موسيقية كلاسيكية للقيثارة، ألّفها وحققت أسطواناتها أعلى الأرقام في المبيعات في فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة. هجر كل ذلك ليجلس في حي حلبي قديم، وربما منسي على خارطة هذا العالم ليستمع إلى الإنشاد الديني في حلقة ذكر ويملأ "الفراغ الذي تزداد مساحته اتساعاً في أعماقي" على حد تعبيره.
وحين امتلأ الفراغ الروحي في جوليان، صرخ الرجل في حضرة عازف العود العراقي الشهير منير بشير على طريقة أرخميدس "وجدتها.. هذه الموسيقى التي أبحث عنها...". كان يريد القول لنا إنّ القوة التي نحتاج إليها لنتفوق على "كثافة" أرخميدس، هي التي تنبع من أعماق القلب والروح، وأي شيء قادر على نبش تلك الأعماق أكثر من الموسيقى الصوفية وأوتار القانون.
كانت المصادفة قد جمعت جوليان ومنير بشير في تونس، مستمعاً كان جوليان لعزف بشير، وكان هذا الأخير يغرف من أوتار العود روحاً ويدلق على روح جوليان شهوة الحياة. تلك الشهوة التي سرعان ما ستدفعه نحو هجر القيثارة الغربية ليلازم بشير ويتفرغ لتعلم العزف على العود.
فآلة القانون التي بدت أنها القادرة فقط على أن تروي شغف الروح فيه، شغفاً بدا سبباً كافياً ليقوم منير بشير بتأليف قطعة موسيقية باسم فايس، ليقوم هذا الأخير بمغادرة باريس في رحلة بحث عن المعنى الحقيقي للنغم. قال جوليان في حوار صحافي: "كنت أشعر بأنّ عالماً فنياً آخر يناديني ويجب أن أبحث عنه، لذلك رفضت كل عقود العمل المغرية، ولم أكترث للشهرة التي حققتها كعازف قيثارة، وبدأت رحلة البحث عن ذلك العالم..".
رحلة البحث ساقت جوليان إلى حلب في الشمال السوري، وهناك كان على موعد مع أقدار اختارته واختارها أيضاً. كان الرجل قد قضى وقتاً في زيارة المدينة القديمة، ينهل من إرثها الفني العريق ومتتبعاً كنوز الألحان الشرقية فيها، ولا سيما تلك التي حملتها الذاكرة الشفاهية.
وبينما كان يستعد لمغادرة المدينة ناداه قدره بالبقاء حين تناهت إلى سمعه من مسجد صغير أصوات أناشيد ومدائح نبوية، فدلف إلى المسجد، وهناك على إيقاع أصوات عذبة بلا موسيقى، كان يردم آخر ما تبقى من فراغ الروح فيه.
لطالما كان جوليان يردد "لا بد من وجود فن مختلف، فن يملأ الفراغ الذي تزداد مساحته اتساعاً في أعماقي". لعله في حلقة الذكر تلك وجد الفن الذي يبتغيه، وإلّا فما معنى أن يمزق الرجل بطاقة سفره إلى بلده ويقول: "في هذه المدينة سأبقى وأعيش"...؟ وما امتلأ في روح فايس كان يدفعه إلى نطق الشهادتين وإعلان إسلامه، بل وصياغة اسمه الجديد "جوليان جلال الدين" الذي اختاره مأخوذاً بالشاعر المتصوف جلال الدين الرومي.
أن يختار الفرنسي جوليان فايس أبوة جلال الدين الرومي يعني أن ينذر حياته في اقتفاء أثر المتصوفة وإعلاء شأن موسيقى غازلت روحه، فأراد مغازلة العالم عبرها، فشكّل فرقته "مجموعة الكندي" التي تألفت من تخت شرقي ضم عازفين على آلات القانون والعود والناي، إضافة إلى آلتي الدف والطبل.
وعبر الفرقة، حمل الموسيقى العربية التقليدية إلى العالم وعرّف الغرب بأصوات عربية شهيرة في عالم الإنشاد الديني والغناء الصوفي، من بينها رئيس جماعة الدراويش الصوفية الشيخ حمزة شكور، والمؤذنان الشهيران صبري مدلل وعمر سرميني، ومغني حلب أديب الدايخ.
سرعان ما توسعت مجموعة الكندي بعد شراكة جوليان مع الشيخ حمزة شكور، إذ أسّس الاثنان ثنائياً مبدعاً جال العالم ليقدم الأناشيد والابتهالات الدينية والقدود الحلبية والموشحات الأندلسية والمقامات العراقية، فضلاً عن قصائد أشهر شعراء الصوفية وعروض المولوية على إيقاعها، ومعاً كانا يسجلان، بحسب مصادر إعلامية، "رقماً قياسياً في عدد الحفلات التي تحييها فرقة عربية غنائية خارج العالم العربي".
في حوار صحافي لشريك جوليان الفني، الشيخ حمزة قال: "عندي سبع لغات: الأولى اللغة العربية ،الثانية لغة الموسيقى، الثالثة لغة العيون، والرابعة لغة الروح، والخامسة لغة الحس، والسادسة لغة التعبير والسابعة لغة الصمت". ولعلّ المتتبع لسيرة جوليان وموسيقاه يدرك أن ما كان يبحث عنه هذا الأخير ووجده، هو كيان واحد اجتمعت فيه تلك اللغات السبع، إنّها الصوفية.
يُذكر أنّ جوليان فايس ولد عام 1953 لأم سويسرية وأب فرنسي، وقضى سنواته الأخيرة في منزل يعود إلى القرن السادس عشر في واحد من أحياء حلب القديمة، قبل أن يغادرها إلى إسطنبول، ومنها عاد إلى باريس حيث تلقى العلاج في مستشفياتها قبل أن يعلن موته يوم الجمعة الفائت.