جولةٌ واقعيّة

17 يناير 2015
+ الخط -
"أين هي؟"

بدا السؤال وكأنّها تمضغ في فمها دودةً حيّة، وكانت تفكر بأمر ديزي وكادت الفكرة تبكيها، فقد كانت ديزي دودة لا يعيبها شيء أبداً، إنما كانت تفعل ما تفعله الديدان التي على شاكلتها، إذ عضّت صبياً صغيراً قبل عدّة أيّام أثناء نومه وفعلت أشياء من هذا القبيل وحسب. فلتتنزّل الرحمة على روح ديزي.

وبهذه المناسبة، لا بد أن أقول إنّ السيدة كيدر تكون مزعجةً جدّاً في بعض الأحيان، فهي لا تصدّق أنّ لديزي روحاً. كيفَ لكِ أن تقولي هذا يا سيدة كيدر؟ أتعجّب كيف أنّ السيّدة كيدر وكل من معها يدّعون معرفة كل شيء عن أيّ شيء، أليس هذا صحيحاً؟ ولكنّها قد تكون في غاية الغباء أحياناً. وهذا المثال المتعلّق بديزي مناسب جدّاً.

لقد تساءلت السيدة كيدر يوماً كيف يمكن أن تكون ديزي هي حقّاً ديزي إن كان يعيش في هذه البافيلا عدد كبير من الديدان؟ الجواب بسيط: كانت ديزي أكبر دودة من نوعها في ذلك المكان. ثم سألت السيدة كيف لنا أن نميّز إن كانت ديزي ذكراً أم أنثى، والجواب أنّ ديزي كانت تعيش مع عائلة البنت، ولم تعضّ أحداً من أهل المنزل، وحصلَ في يوم من الأيام، تدّعي السيدة كيدر أنّها لا تذكره، أنْ وجدت البنت بيضاً صغيراً من ديزي، بل وقد رأت البنت غير مرّة كيف تلتوي ديزي وتلفّ نفسها حول هذا البيض لحمايته، أليس هذا صحيحاً؟ لقد رأتها السيّدة كيدر، أليس كذلك؟ ولكن لم يحصل أن ظهرت في البيت أية ديدان صغيرة، لم نرَ سوى البيض، وفي هذا كانت السيدة كيدر على حقّ.

إنها سيدّة بليدة أحياناً، ولكنّها قد تكون في أحيان أخرى قاسيةً جدّاً، إذ قالت عند ذكر البيض إنّه من المحتمل أن تكون ديزي قد أكلته كلّه، أو قد تكون الديدان الصغيرة قد فعلت ذلك. إن السيّدة كيدر مضحكة جدّاً كذلك. تعلم البنت أنّ ديزي ليست بغريبة على السيّدة كيدر. كل ما في الأمر هو أنّ السيدة كيدر، كالبنت تهوى اللعب. وإنّ السيّدة كيدر أفضل صديق يخطر على بال أيّ بنت.
ما الذي فعلتَه بالجُوزة التي كنت أستخدمها أيها القذر؟ ألقى الرجل سؤاله هذا بصوتٍ خارجٍ من فمٍ كأنّه دلوٌ مظلم مليء باللعاب الجاف، لا أسنان فيه طبعًا، تماماً كما الدّلو.

"يجدر بك أن تسألها" قالت البنت، وأردفت: "إنّها امرأة مستحيلة".

كانت البنت قد أنهت واجباتها المدرسيّة ولم يتبقّ لديها ما تفعله في تلك الليلة. لا تلفاز في البيت ولا كمبيوتر. ليس لهم هناك سوى عيشهم مع بعضهم، وعندها كذلك السيّدة كيدر. ليست مشكلتها إن رفضت صداقة السيّدة كيدر، تلك السيدة الفريدة التي أتت إلى ريو دي جانيرو رغم طول المسافة لا لشيءٍ إلا لإظهار العطف وإفشاء المحبّة.

"لقد خبّأت السيدة كيدر جوزتك في مكان ما، لم لا تبحث عنها، أظنّك تستطيع المشي، أليس كذلك؟"

"لا تعبث معي أيّها السافل الحقير، وإلا سأبيعك للمدام، وأنا أعني ما أقول".

البنت تلهو الآن مع دُماها. الدمى تتصارخ، والشجار ينغّص على البنت، ولكن ماذا عساها تفعل؟ تلك الدمى قديمة وجميلة، قديمةٌ وجميلةٌ ومتعبة، ولكنّها غير متعبة من الشجار. إنّها تتخاصم على أتفه الأسباب. ثم إنّ السيدة كيدر لا تحبّها، ليس لأنّها لم تعد طفلة، بل لأنّها، كما تظنّ البنت، تغار من هذه الدمى.
تقول البنت: "صحيح! المدام في السجن الآن، يجدر بك أن تعرف ذلك. هنالك مروّج جديد الآن، لا أعرف اسمه، ولا أظّن أنّ السيدة كيدر تعرف اسمه أيضاً، وإلّا كانت أخبرتني، فأنت تعرف أنّ السيدة كيدر لا تخفي شيئاً عنّي".

"كم ستعرض عليّ المدام من قطع الكراك لو بعتك لها يا ترى؟".

"لا أدري، ربما يجدر بك زيارتها في السجن لمعرفة الجواب".

انتهى الشجار بين الدمى الآن والجميع راضٍ. إنها دمىً على قدر كبير من التعقيد.

يقول الرجل سائلاً: "ماذا يُدعى ذاك الرجل الجديد؟".

"أخبرتك مليون مرّة، لا أدري. الخبر لديك، فأنت عميله".

"سأسأله إن كان يريدك، إلا إن أعطيتني جوزتي، أين جوزتي اللعينة؟".

بدا صوت الرجل هذه المرّة كأنّ لسانه قد صنع من مطّاط مذاب. الكلمات جميلة جدّاً، حتّى الكلمات البذيئة تخرج جميلة من فيه، وليس في استطاعتك أن تتكلم هكذا. الكلمات عزيزة جدّاً، ولهذا فإنّها لا تتكلم كثيراً وهي في المدرسة.

ينزع السائح رقم 1 سمّاعات الأذن ويقول: "المسكين! يبدو أشبه بفيلٍ فاقدٍ للشهيّة، إن كان هذا ممكناً".

فيقول مرشد الجولة واسمه خوسيه: "هذه أشياء حقيقيّة جدّاً". صحيح أنّ خوسيه لم يكن يعرف السائحين الذي يخرجون معه بأسمائهم، إلا أنّه كان يميّزهم بتعيين أرقام في ذهنه لكلّ واحد منهم. عملُه هذا لا يجعله سعيداً.

يقول السائح رقم 2: "حتى الرائحة النتنة حقيقيّة في رأيي. لا يمكن لزجاج الأكريليلك هذا أن يحملها، كان يجب أن نحصل على تلك الكريمات التي يضعها الطبيب الشرعيّ تحت أنفه".

يقول السائح رقم 3: "ليس كل المشرّحين يستخدمونها، فهم يعتادون على الأمر كما تعرف".

أجاب السائح رقم 2: "حسنٌ، أنا لست طبيباً، أتمنّى أن تكون جولتنا القادمة في مكان ليس كريه الرائحة”. ثم نظر وقال: "انتظروا قليلاً، هل ترون تلك المرأة؟".

قال مرشد الجولة: "نعم، هنالك امرأة. هذه جثّة أمّها. لا أقصد أنّها جثّة حقيقية، ولكنها جثّة مقلّدة، هل فهمت؟".

قال السائح رقم 1: "إذن يمكن أن تكون هذه الرائحة النتنة رائحتها، أليس كذلك؟ إنها تبدو جثة حقيقية، حقيقية جدّاً".

"كلا، كلا. إنّها جثّة مقلّدة. كانوا في الماضي يمضون بعض الأيام ويعيشون مع الجثة هنا، إلى أن حذّر الناسُ سكّانَ مركز المدينة، وأتوا وأزالوا الجثة. لقد ماتت بجرعة مفرطة من الكوكايين أو شيء مثل ذلك، لست مـتأكداً. لم يلاحظوا ذلك إلا في وقت متأخر، أقصد العائلة".
قال السائح رقم 3: "هنالك العديد من الأشياء التي لا تعرفها. يقول البرنامج إن هذا النوع من الجولات قد بدأ في العام ....".

"2014" قال مرشد الجولة.

"جيّد، وقد مرّت عشرون سنة الآن، فكيف يكون الدليل السياحيّ غير عارفٍ بما هو معروض؟ أريد أن أسترجع نقودي".

"انتظر لحظة" تدخّل السائح رقم 1. "إن كان لديكم دميةٌ تمثّل..".

"أمّ البنت" أجاب الدليل السياحيّ.

"تمام، أمّ البنت. إن كانت هي محفوظة عندكم، فماذا لدينا هنا؟ شيءٌ مزيّف؟ هذه إذن ليست جولة واقعيّة".

"أعيدوا لي نقودي" انطلق السائح رقم 3 مجدّداً.

"هششش" قال لهم المرشد. "استمعوا إليهم يتكلمون. ضعوا السماعات في آذانكم".

قالت البنت: "يجب أن تكون أكثر أدباً. السيدة كيدر تحبّ الأخلاق الكريمة. فهي بريطانية، كما تعرف. كلا، أنت لا تعرف. انسَ الأمر".

أضحت الدمى مملّة الآن، وقرّرت قتلهما كلتيهما. وقبل أن تقتلهما كلتيهما، ذهبت تشرح بدقّة متناهية أنّه ما من شيء يستوجب القلق، فإن طال الأمر أو قرب، فلا بدّ من قتلهما.

ثمة أمر لا تحبّه في الدمى، فقد كانت تخاف حين كانت ديزي موجودة، إذ كانت تخشى من ديزي أن تعضها. لا أحدَ في هذا العالم يمكنه أن يتصوّر دودة تعضّ دمية من البلاستيك، أو أي دمية من أي نوع كانت. مسكينة تلك الدمى. قد تمتلك الدمى قلوباً رقيقة، هذا صحيح، أما أجسادها فتتحمّل كل الظروف القاسية، سوى الحرارة. إن الجوّ في ريو دي جانيرو دافئٌ جدّ دافئ. حتّى أنّ البنت كانت ترغب في الحصول على عمل كي تتمكن من شراء ثلاجة كي تقي الدمى شرّ الحرارة وتحرسها من الديدان الساكنة في البافيلا.

قال الرجل: "سحقًا، امرأة جديدة أخرى صارت مسؤولة عن الشغل هنا".

كانت تجد الأمر مضحكاً حين تلحظ الفجوة التي تفصل بين ما تقوله هي وما يجيب به الرجل. كان يلزمه أحياناً بضعة أيامٍ حتى يجد جواباً لواحد من أسئلتها. كثيراً ما تضحك حين تذكر يومَ سألته عن عمره، ولم يكن قادراً على التذكّر. ولمّا أنْ نسيت هي السؤال، تذكّر أن يعطيها جواباً. كان الجواب خاطئاً، ولكن لا فرق. إلا أنّه لا يتأخّر في إجابة السيدة كيدر، وهو الآن يتظاهر بأنه لا يعرفها، وكثيراً ما يفعل ذلك. إنّه يعرف السيدة كيدر بكل تأكيد، حتّى أنّه قبل عدة أيام حاول أن يمدّ يده عليها حين شتمته. لقد كانت لحظة مضحكة حقاًّ، فذلك الرجل المحتدّ رغم ضآلة حجمه، وضعفِه ومِشيته الطفوليّة، يطلق لسانه بالشتائم ويضرب بيديه في الهواء لأنّه لم يعد يسيطر على نفسه ولم يقوَ على النظر في وجهها، إذ كانت عيناه الجامدتان تطفوان على صفحة وجهه كطائرَي نورسٍ ميتين تحملهما الأمواج المتكسّرة.  كانت البنت تدرك أنّ السيدة كيدر سيدة كبيرة، وأنّها رغمَ تقدّم سنّها، كانت ما تزال قادرة على الدفاع عن نفسها أمامَ أي شخص كان. في ذلك اليوم، تعاطت قطعة كراك أخرى، ثمّ طردت الجميع من المنزل، هو وجميع أصدقائه المدمنين، وما هم إلا حفنة من هياكل عظمية تتنفّس، وقد دبّ فيهم الرعب ساعتها، ولم يعودوا بعدها قطّ. أحسنتِ صنعاً سيدة كيدر.

الرجل ينتحب الآن. لديه القدرة على البكاء دون ذرف الدموع، وهو أمرٌ لافتٌ لنظر البنت، فهكذا تفعل الدمى أيضاً.

"أعطني مشروبًا" قالها هكذا كطفل كبير.

وقف عند الزاوية التي يقضي فيها معظم وقته في المنزل ونظر نظرةً حوله باحثاً عن أشياء لا يملكونها في المنزل: كؤوس شراب، ثلاجة، أشياء تبادلها مع آخرين ليحصل على بعض المال لشراء الكراك. لذا كانت تعرف أنّه سينصرف، وقد ولّى خارجاً كما توقّعت.

قال السائح رقم 2: "إنني أفهم أنّ الأشخاص المدمنين..”.

يقول مرشد الجولة مقاطعاً: "تتوفّر في مركز المدينة كمّيات من قطع كراك الكوكايين بشكل أسبوعيّ، ألم تقرأ الدليل الإلكتروني؟".

"لقد قرأته. ولكن لم يرد فيه ذكر للكحول".

"إنهم لا يحضِرون الكحول".

"وماذا عن الطعام؟".

"مدرستها توفّر لها كل الوجبات داخل المدرسة. أمّا هو فيتلقّى كوبونات الطعام ويقايضها بقطع الكراك".

قال السائح رقم1: "في هذه الحالة ستكون السيدة العجوز تتضوّر جوعاً. هذا أمر عجيب حقًا".

قال السائح رقم 3: "ليس هنالك حلّ لوباء كراك الكوكايين، بل إنّه هو الحلّ لمدينة ريو".

"في بداية الأمر، كان جزء من المال الذي تحصل المدينة عليه من سائحين أمثالكم يذهب إلى نظام الصحة العامّة وعلاج الأشخاص المدمنين. ثم رفعت المدينة يدها عن القضيّة معلنة استسلامها. لا يمكن لأيّ علاج أن يصلح هؤلاء الناس".

أضحتِ الآن تستضيف جميع أصدقائها، فهم لا يحبون زيارتها أثناء وجود الرجل في المنزل. وهذا ما يجعلها تحبّ السيدة كيدر أكثر من أي شخص آخر. ولكنّها تفهم السبب الذي يجعلهم يحجمون عن زيارتها وهو في المنزل. كما أنها تزورهم أيضاً كلما سنحت لها الفرصة. إنهم يسكنون قرب بعضهم بعضاً وهم ثلّة لطيفة حين يجتمعون.

"السيدة كيدر!" هكذا قالت البنت حين دخلت السيدة كيدر.

سأل السائح رقم 4: "من تكون السيدة كيدر هذه التي تتحدثُ عنها البنت بلا انقطاع؟"

جاء الجواب من مرشد الجولة: "أعتقد أنّها صديق متخيّل. إنّ المعلومات التي لديّ عن العائلة لا تذكر شيئاً عن أقرباء أو معارف آخرين. إن شركة ستيت تور للسياحة تختار المعلومات التي لا يصعب فهمها عليكم، بمساعدة صغيرة من جهاز الترجمة. هذا كل ما في الأمر".

ثم سأل السائح رقم 1: "هذه البنت لا تتحدث الإنجليزية، أليس كذلك؟ أو ربّما يكون كيدر اسم عائلة شائعاً في البرازيل، فهي تقول "كيدر" أليس هذا صحيحًا؟".

قال السائح رقم 2: "أعتقد كذلك. لو سمحت لي، لديّ سؤال".

"تفضّل"، قال المرشد.

"لِمَ لا نستطيع أن نتكلم معهم؟ هذه قاعدة غبيّة في رأيي، دعونا نتكلم إليها".

توجّه السائح رقم 3 إلى الدليل السياحي سائلًا: "لماذا تضحك؟".

"عذراً. ولكنّ البرازيل، وخاصة ريو دي جانيرو، احتاجت قروناً كي تضع القوانين وتنمّي الشعور بضرورة الالتزام بها، ويأتي أميركيّ الآن ليطلب تجاوزها. هذا أمر يبعث على الضحك بحقّ، اعذرني".

قال السائح رقم 1: "واضحٌ أنّ البنت تعاني، ليس الأمر متعلقاً بالفضول، افهمني".

قال السائح رقم 2: "إنها تعاني بالفعل. هي وآلاف في مثل وضعها حول المدينة، وفي أرجاء البرازيل كافّة. لهذا السبب بالذات نحن هنا. جرّب أن تذهب إلى جولة واقعية في فنلندا أو غيرها من المدن".

قال السائح رقم 1: "على أيّة حال، أظنّ أنّ المترجمين قد يعرفون إن كانت البنت تتكلّم الإنجليزية أو لا".

قال المرشد: "قلت لكم إنّ هذه ترجمة آلية".

سأل السائح رقم 4: "هل تتحدثُ البنت اللغة الإنجليزية؟ إنها أظرف بنت رأيتها".

"وأقذرهنّ"، أردف السائح رقم 1.

فقال السائح رقم 3: "أفضّل أن أقول إنها بنت لا تلقى الرعاية اللازمة. هل يمكن تبنّيها في برنامج التبنّي الدوليّ؟".

أجابه المرشد: "لا أعتقد ذلك. إنها تُستخدم في الجولات الواقعيّة، ولذا يلزم أن تبقى هكذا بلا رعاية".

"فهمت".

وأضاف المرشد: "أستبعد أن تكون البنت تعرف الإنجليزية، فالمدارس توقّفت عن تدريس الإنجليزيّة، ثم إنّ البنت لا تستطيع استخدام الإنترنت، ما تزال صغيرة على ذلك، أظنّك تفهمني".

قال السائح رقم 2: "ولكنّي رأيت مقهىً للإنترنت قريباً من هنا. يمكن أن تكون البنت قد تعلّمت الإنجليزية عن طريق الإنترنت".

قال السائح رقم 1: "ويمكنني أن أرى بعض الكتب، كتباً ومقرّرات دراسية على ما أعتقد".

قال المرشد: "هذا صحيح، ولكنّها ليست بالإنجليزيّة".

قال السائح رقم 1: "ماذا لو كانت تلك السيدة ..".

"تقصد السيدة كيدر"، أكمل المرشد.

"نعم، شكراً لك. ماذا لو كانت سيّدة تعمل مع منظّمة ما، موظّفة ميدانيّة مع منظّمة أجنبية تدرّس الإنجليزيّة في هذه المنطقة؟".

أجابه المرشد: "لا يسمح لأي منظمة تطوّعية العمل في مناطق الجولات الواقعيّة، وإلّا لما كان هنا عروض الفقر المخصصة لتسليتكم، أليس كذلك؟ دعونا إذن نستمتع بوقتنا".

ثم سأل السائح رقم 1 قائلًا: "هل ثمة مغتربون يعيشون هنا؟ أقصد أنني رأيت الكثير من الأميركيين والصينيين، جنباً إلى جنب، في تلك البافيلا الكبيرة، ما اسمها مرّة أخرى، نسيت؟".

قال الدليل: "تدعى روسينها. ولا تنسَ البريطانيين أيضاً، كثير منهم يعيشون هنا. فقد تحوّلت المنطقة الجنوبية من "البافيلات" إلى مناطق للأغنياء، حيث ينعمون بأفضل إطلالة في تلك المنطقة. أمّا هنا، في الأسفل، فلا وجود للمغتربين. هنالك ما يقارب ألفَا بافيلا في ريو، وقد انتقل الأجانب للعيش في أرقاها، لذلك لا داعي في رأيي لتسمية تلك الأماكن بالبافيلات بعد الآن. هنا في مورو دا بروفيدانيسيا يعيش بعض الناس من أميركا الجنوبية، من بوليفيا وفنزويلا والأرجنتين، أمّا أبناء جلدتنا فلا يطيقون تكاليف العيش في بافيلات المنطقة الجنوبيّة.

لقد ظهر الشاعر فاليري فورَ مغادرة الرجل المنزل. إنّه رجل يجمع بين رجاحة العقل وحسّ الفكاهة.

سأل فاليري المرأة إن كانت تحتاج شيئاً.

قال السائح رقم 3: "تمهّل لحظة، السيّدة، هي ليست دمية، إنها على قيد الحياة".

قال الدليل: "لا أظنّ ذلك".

"أهي دمية تتكلم إذن؟"

"لا".

"إذن هي ليست دميةً بكل تأكيد، لأنها تتكلم أو تحاول الكلام. انظر إلى فمها، ألا تراه يتحرك؟".

قال السائح رقم 4: "أنت على حق. يبدو أنّ مرشدنا لا يعرف شيئًا عمّا يجب أن يعرّفنا به!".

جاء الردّ من المرشد: "هذا ليس خطئي، هل تفهمون؟ هذه أوّل مرّة لي مع هذه العائلة، والمعلومات التي معي تفيد بأنّ هذه المرأة ليست سوى دمية".

فقال السائح رقم 2: "حسبتك قلت إنّ البرازيل دولة تهتمّ بالنظام".

"قد لا تصدّقني لو وصفت لك كيف كانت حالة الفوضى التي كنا فيها. ولكن فلننظر إلى الجانب المشرق أصدقائي السيّاح. هذا ما يفعله كراك الكوكايين، هل تفهمون؟ إنّه يدمّر الإنسان إلى مستوى تكاد لا تميّزه إن كان شخصًا أو جثّة أو حتّى دمية. أعتقد أنّ هذا الأمر لا يخفى عليكم، ولكن انتظروا حتى نزور "كراكولانديا"، وهي أرض الكراك في مركز المدينة. ستتمنّون لو أنّ الملاعين القاطنين هناك كانوا دمىً حقًا".

أخبرت المرأة فاليري بأنها لا تريد سوى الشِّعر. الشعر الذي يقوله فاليري هو شِعر رجل جَذِل، ومع أنّها لا تعرف الروسيّة، إلا أنّها تحبّ ما يقول. إنّها تنتشي بالأثر الذي تتركه كلماته في رأسها، فالجلسات الشعريّة تُدخل السعادة عليها. أمّا هو فيشعر كأنّه طبيب يقدّم للمريض علاجاً بديلاً: التخلية من الكراك، والتحلية بالشعر الروسي.

يبدأ فاليري بإلقاء قصائده، بيد أنّ البنت لا تستطيع التركيز معه، فهي تلهو مع فرانسيس البحّار، والذي يحبّ لعبة "الغميضة".  من الصعب لعب "الغميضة" معه أو سواه وذلك بسبب الأثاث في البيت: هنالك فرشتان، فرشة الرجل والفرشة التي تتقاسمها مع المرأة، وهنالك بعض الرفوف حيث كان يوضع التلفاز فيما مضى، وصارت تحمل الآن بعض كتبها المدرسيّة. لا تستطيع أن تختبئ سوى تحت كومة الملابس أو في الحمّام أو خارج المنزل، عند الجيران.

"أين تختبئ حوريّة البحر؟" سأل فرانسيس البحّار وهو يبحث عن البنت في الوقت الذي كان فيه فاليري يلقي شعره والمرأة تهزّ رأسها كأنه يُضرب عدة ضربات بتلك الأكف الإسفنجية الملوّنة، وكانت البنت تحاول أن تبقي فيها مغلقاً، وهذا أمرٌ في غاية الصعوبة لها لأنّ البهجة المثيرة قد غمرتها تماماً.

قالت البنت: "أنا هنا. ليس باستطاعة فرانسيس البحّار أن يعرف مكان الحوريّة الصغيرة!".

سأل السائح رقم 4: "هل قلت فرانسيس البحّار؟".

"لا تنظر إليّ هكذا" أجابه المرشد ثمّ أردف يقول: "لا أجوبة لديّ، فهمت؟ دعونا نشاهد ونستمتع".

فقال السائح رقم 1: "ولكن كان يجدر بشركتك أن تحيطك علمًا بهذه التفاصيل".

"نحن برازيليون، جيد؟ علينا أن نفعل أشياء كثيرة، ولكننا لا نفعل أي شيء لأننا برازيليون، نقطة! لا يمكنك الحصول على جولة مثل هذه في أيّ مكان في العالم. نعم، هذا شيء جديد تماماً. صحيح، علينا أن نحسّن الكثير من الأمور. ولكن يا هذا، أنت في أقدم بافيلا في ريو، وأنت تشاهد يوماً عادياً في حياة عائلة حطّمها تعاطي الكراك. قل إن أحببت إنه مشهد مدمني الكراك. فكلّ شيء يمكن أن يحدث لعائلة مدمنة على الكراك وتعيش في البافيلا. ماذا أقول أيضاً؟ أترون البنت تركض هكذا كالمجنونة؟ ربّما تكون الآن منتشية من الكراك، إن أحببتم أن تعرفوا".

قائل السائح رقم 1: المنتشي من الكراك لا يركض بهذه الطريقة.

"بغض النّظر!" ردَ المرشد.

أمّا الآن فينضمّ ضابط الصفّ البحريّ برادلي إلى اللعبة، ويخبر فرانسيس البحّار أن يبحث عن البنت خارج المنزل. فرانسيس ليس رجلاً ذكياً، فقد كان ما يزال يبحث عن البنت في المنزل الفارغ.

"أيها البحّار المبتدئ" قال ضباط الصفّ البحري برادلي.

"نعم سيدي" أجاب فرانسيس البحّار.

"كم مرّة لعبتما "الغميضة" معاً هنا؟".

"لعبناها كثيرًا سيدي!".

"وكم مرّة وجدتها مختبئة خارج المنزل؟".

"كل مرّة سيدي!".

تحبّ البنت السّمات المهيبة لبرادلي، فهو لا يتردّد أبداً. لا يتردّد سوى في حضرة السيدة كيدر، فالهيبة التي تلفّ السيّدة كيدر تبعث على الخوف، حتى لو كنت ضابط صفّ في البحريّة الملكيّة.

"إذن عليك البحث عنها في الخارج الآن، إلا إن كنت تريد أن تكون المشنقة مصيرك، أيّها البحّار المبتدئ!".

فقال فرانسيس البحّار: "كلا، مصيري ليس هناك سيدي". ثم غادر الغرفة من فوره.

بدأ المرشد يشعر بمزيد من الغرابة في تلك اللحظة. لا شيء يحدث، فالبنت متوارية عن الأنظار، وتسلّل الشعور بالغرابة إلى السيّاح أنفسهم أيضاً. إنّهم لا يريدون البقاء هنا أكثر.

دبّ جدال بينهم، صمّ المرشد أذنيه عنه رغبةً منه في عدم معرفة ما يجري. إنّه يتمنّى لو يكون في مكان غير هذا، إذ يخيّل إليه أنّه ينتمي إلى مكان بهيج، يعجّ بالأشياء التي تتألف منها أحلام ريو: العملاء الوديعين، مشاريب الكوكتيل قرب الشاطئ، النساء والرجال بملابس السباحة، وحفلات الشراب ويوانات صينية تتطاير. ما من أحد من السيّاح يبحث عن "ثقافة" وما من مستكشف أوروبي ولا أمريكي يتحرّك بدافع الضمير بحثًا عن أشياء "أصليّة".

قال السائح رقم 2: "أعتقد أنّ هذا كافٍ، أريد العودة إلى الفندق".

"وأنا أيضًا" قال السائح رقم 3.

"سأذهب معكم" يقول رقم 4.

"وماذا عنك؟" قال المرشد للسائح رقم 1.

"نعم، هيا بنا" أجاب رقم 1.

"المجد للربّ" قال المرشد السياحي بالبرتغالية.

"سنشاهد غداً مشاهد قتل ميدانيّ في البافيلا، أليس كذلك؟" سأل السائح رقم 2.

قال المرشد: "ماذا؟"

فأجاب السائح رقم 2: "إنني أمزح وحسب".

يراود فاليري القلقَ حين تتوقف المرأة عن تحريك رأسها. فيذهب ويطمئن عليها، ثم ينادي على البنت:

"عزيزتي، أين أنت؟".

فيأتي الجواب من فرانسيس البحّار: "لا أستطيع أن أجدها".

فيقول فاليري: "نريدها هنا الآن".

فيقول ضابط الصف البحريّ: "يراودني شعور ما".

"تشعر بماذا؟" أجابه فاليري.

"أشعر بالضعف".

فيقول فاليري: "وماذا في ذلك؟".

"لا أدري. لا عليك. دعنا نبحث عنها".

فينضم فاليري وبرادلي إلى فرانسيس البحار بحثاً عن البنت.

يقترح فاليري لدى مغادرتهم المنزل قائلًا: "أين السيدة كيدر؟ يمكن أن تساعدنا".

فيقول فرانسيس البحّار: "تلك العجوز الساحرة... من يريد أن يراها؟".

كانت البنت في أسعد لحظاتها، فقد كانت تلك هي المرّة الأولى التي يستغرق العثور عليها ساعة بأكملها. كان بإمكانها أن تحسب الوقت من خلال الاستماع إلى المسلسل الذي يشاهده أحد الجيران، فحين وجدت مخبأها الأمثل، كان المسلسل لم يبدأ بعد، وكان الجار يشاهد ساعة الأخبار.

وجد السائح رقم 1 نفسه تدفعه للعودة مجدّداً إلى مورو دا بروفيدينسيا فور مغادرة المرشد الفندق.

مورو دا بروفيدينسيا مكان آمن للسيّاح، فلم يجد مشكلة في الوصول إليها. كانت دكّة المراقبة مغلقة، لذلك كان عليه أن يبحث قليلاً حتى وجد النقطة الأنسب التي تتيح له مشاهدة ما يجري داخل المنزل دون أن يزعجه أحد. إنه لا يعرف ما عليه فعله تمامًا، فهو يرغب في الحديث مع البنت، غير أنّه يخشى عواقب ذلك.

لم يكن الرجل في المنزل، وكانت البنت قابعة إلى جانب جسد المرأة. ليس في مقدوره فهم ما تقوله البنت، فخدمة الترجمة لا تعمل، والكلمات البرتغالية التي يعرفها لا تسعفه في فهم شيء. كان يجب تطوير تطبيق للهاتف لهذا الغرض، ولكن لم يكن هذا متوفرًا.
قالت البنت: "سيدة كيدر، هل رأيته؟ علينا أن نخبره".

أجابت السيدة كيدر: "لا، ولكنّي أخشى أنّه لن يعود أبداً".

تسيطر حالة من الأسى على السيدة كيدر، وتقول: "عليك أن تكوني أكثر قوّة من الآن فصاعداً".

ترنو البنت إلى السيدة كيدر لتسألها أنْ كيف لها أن تعرف أن الرجل لن يعود، ولكنّها تقرر أن تسأل سؤالًا آخر:

"سيدة كيدر! ما خطبك؟".

"النهاية وشيكة" تقول السيدة كيدر.

"ماذا تقصدين؟".

"استمعي إليّ، هنالك شيء أريد أن أقدّمه لك قبل الرحيل".

"لا يمكن أن تغادري يا سيدة كيدر، أنت صديقتي الوحيدة!".

تمدّ البنت ذراعيها الصغيرين نحو ساقي السيدة كيدر، وتضع وجهها على تنّورتها السوداء الطويلة وتأخذ بالبكاء. وفجأة تصبح ساقي السيدة كيدر أطرى من الآيس كريم وتسحبهما من تحتها.

"كان هذا الكتاب لي، أمّا الآن فإني أريد أن يبقى في حوزتك، أرجوك. انظري، هذا اسمي مكتوب هنا".

تمسك البنت الكتاب، وتفتح الصفحات الأولى وتقرأ الاسم بصوت عالٍ:

"سينثيا هارييت راسل كيدر. إنه أكثر الأسماء جمالًا في العالم كلّه".

يمسك السائح رقم 1 هاتفه الذكيّ ويبحث عن هذا الاسم في أحد محرّكات البحث، وإذ به أمام صاعقةٍ كانت كفيلة بإذهاله وجعله يهذي، ومن بعد الهذيان شعر كأنّه يختنق، ثم عاوده الهذيان، وبعد الهذيان انفجر باكياً. يداه المرتجفتان حالتا دون أن يستمر في البحث في الهاتف، ثم برز لسانه حتّى كاد اللسان يقوم بما عجزت عنه اليدان، عيناه أُغلقتا من تلقائهما، ولم يحسن فعل شيء بلسانه، صار بحاجة لجزء آخر من جسمه ليقوم بمقام عينيه، ويخشى لو أفلت يديه أن تصلا إلى عينيه ويرميهما بعيداً، ما الحل الآن؟

كان رأسه ما يزال يتحرك، فراح يضربه بشجرة عدّة ضربات إلى أن تفتّحت عيناه من جديد، وبما أنّ رأسه يعمل، فهذا يعني أنّ بمقدور دماغه توجيه الأمر إلى لسانه ليعضّ على يديه كي تعودا طوع تحكّمه، وهذا ما فعله، وعندها تمكّن من قراءة العنوان، وهو خاص بموقع يساعد في العثور على أماكن دفن الموتى: www.findgrave.com، وكان بمقدور اليد أن تحرّك الإصبع للنقر على الموقع، وهذا ما ظهر:

تاريخ الميلاد: تشرين أول 1817
ساليسبيري، مقاطعة ليتشفيلد، كونيتيكت، الولايات المتحدة الأميركية.
تاريخ الوفاة: 16 نيسان 1840
ريو دي جانيرو
ريو دي جانيرو، البرازيل.
سينثيا هارييت (رسل) كيدر، ابنة ويليام بي أو إلينور (دتشر) رسل. وهي الزوجة الأولى للقسيس د. دانيل باريش كيدر، وقد تزوجا مساء الأربعاء، 9 تشرين الثاني 1837 في ساليسبري، كونيتيكت، وبارك زواجهما قداسة القسيس أُوفي أميرمان. وقد كان السيد كيدر قسيساً في كنيسة جينيسي، ونيوجيرسي، ونيوآرك، وروك ريفر التي تتبع للكنيسة الأسقفيّة الميثودية.
الكنيسة الأسقفيّة الميثودية
المجمع التبشيري
الكتاب المقدس في جميع البقاع، المجلد 21، قرابة 1900م، الصفحة 87. وصل القسيس دانيل باريش كيدر وسينثيا إلى البرازيل، في أمريكا الجنوبية، في كانون الثاني 1838. وكانت السيدة كيدر قد توفّيت في ريو دي جانيرو في 16 نيسان 1840. وقد غادر السيد كيدر إلى نيويورك في نيسان من ذلك العام، ووصل في شهر حزيران. وتوفّي في إيفانستون، إلينوي في 29 تموز 1891.
معلومات عن العائلة:
الوالدان: ويليام بي راسل (1788-1865)
إلينور راسل (1789-1856)
الزوج: القسيس الدكتور دانيل باريش كيدر (1815-1891)
شاهد القبر: "إلى ذكرى السيدة سينثيا هارييت، زوجة القسيس دانيل بي كيدر من الإرسالية التبشيرية الأمريكية. توفيت في 16 نيسان 1840 وعمرها 22 سنة وستة أشهر"
الدفن:
المقبرة البريطانية في جامبوا
ريو دي جانيرو، ريو دي جانيرو، البرازيل.

كان عليه أن ينتبه مجدّداً لما كان يجري مع البنت، غير أنّ يديه الآن قد بدأتا تبحث عن أسماء أخرى في ذلك الموقع، فوجد فاليري فرانتسفيتش، توفّي في 7 تشرين أول 1992، وفرانسيس نورمان بيل، توفّي في 22 تشرين الثاني 1917، وبي برادلي المتوفّى في 23 حزيران 1917. أين هم؟ أين المقبرة البريطانية؟ كان يريد أن يتابع الضغط وأن يسرع في ذلك. ثم اكتشف ما يبحث عنه، فخلف المنطقة التي يقف فيها تقع أقدم مقبرة في ريو.

إنّ نسق الهلع الذي دبّ في جسده جعله يهرع إلى ذلك المنزل، فلم يكن يملك أيّ خيار سوى ذلك.

البنت تنتحب الآن، وهنالك كتاب ملقىً على الأرض. لا تلاحظ البنت وجود الرجل، مع أنّه يتحدّث إليها، لكنّها لا تجيب، بل إنّها لا تنظر إليه.

ثم يأخذ الرجل الكتاب عن الأرض. إنّه كتاب قديم جدّاً، كُتبَ على صفحة عنوانه الاسم الكامل للسيدة كيدر، بخطّ جميل، ويظهر المزيد على صفحة العنوان: هذا إنجيل نشرته جمعية الكتاب المقدّس الأمريكية، عام 1837.

يجد السائح رقم 1 أنّه مدفون في المقبرة البريطانية في ريو دي جانيرو، فيخرّ ساقطاً على الأرض.


* Toni Marques كاتب من مواليد ريو دي جانيرو (البرازيل)، 1964. له ثلاثة كتب قصصية. عمل مراسلاً في نيويورك لصحيفة O Globo، ومحرراً في محطة Globo TV. في 2015، ستبث محطة HBO، فرع البرازيل، مسلسل "مانيفيكا 70" الذي يرتكز على السيناريو الذي كتبه تحت العنوان نفسه.


* ترجمة عن الإنجليزية: محمد زيدان

المساهمون