جوفانّي باتّيستا بيلزوني: لص آثار في خدمة التاج البريطاني

11 اغسطس 2020
رسم لعملية نقل رأس تمثال رمسيس الثاني بإشراف بيلزوني، 1816
+ الخط -

لطالما وقف الزوّار مندهشين أمام عظمة الآثار التي تغصّ بها متاحف تورينو ولندن، دون أن يدور في خلدهم أن أغلب اللقى النادرة المعروضة بين جدران قاعاتها، ليست سوى ثمرة أكبر عملية نهب للآثار الفرعونية في بدايات القرن التاسع عشر، كان بطلها مغامر إيطالي يعيش اسمه الآن بين الأسطورة والإدانة الخجولة للسرقات التي قام بها أثناء تنقيبه عن الآثار في مصر. 

سرقات وعمليات احتيال قلّ مثيلها في التاريخ المعاصر، ترويها لنا غايا سِرْفادِيّو في كتابها الذي صدر مؤخراً عن دار "بومبياني" بعنوان "الإيطالي الأكثر شهرة في العالم"، بأسلوب لا يحيد قيد أنملة عن الاستشراق الأوروبي. إنها حكاية شخص لا ندري، عندما ننتهي من قراءة الكتاب، في أي خانة يمكننا تصنيفه: فهو مغامر ودبلوماسي وجاسوس لحساب مخابرات التاج البريطاني، وعالِم (لصّ) آثار و"مخترع" طرق حديثة في ري الأراضي. إنما وقبل كل شيء، هو "شخص وطنيّ" بذل كل جهد ممكن لإثراء ثقافة بلده والثقافة الأوروبية على نحو خاص.

تروي سِرْفادِيّو قصة جوفانّي باتّيستا بيلزوني، كعبقريّ في الإبداع ورائد في علم المصريات، فقد كان من بين الأوروبيين الأوائل الذين وصلوا إلى النوبة، بين عامي 1816 و1819، حيث سيكتشف عشرات المقابر في وادي الملوك، وسيزيل أكثر من 40 متراً من الرمال عن معابد أبو سمبل، وسيعثر أيضاً على مدخل هرم خفرع الذي بقي لغزاً لأكثر من 4000 عام. 

كان وراء وصول معظم الآثار المصرية المعروضة اليوم في لندن

بيلزوني هو ابن حلاق متواضع من بادوفا، وُلد في نهاية القرن الثامن عشر، ثم أصبح في فترة قصيرة من الوقت ممثلاً مسرحياً شعبياً في لندن، فجاسوساً جريئاً في خدمة التاج، وعالم آثار هاوياً - وعبقريا بحسب الكاتبة - في مصر المملوكية، ومدافعاً جريئاً عن جزيرة مالطا ضد جيوش نابليون بونابرت، مع رفيقة إيرلندية، أكثر "ذكورية من الرجال"، ولكنها تملك روحاً متحمّسة نقية مختلفة تماماً عن النساء الشهيرات اللواتي تزخر بهنّ صفحات التاريخ الأوروبي، الأدبي وغير الأدبي، في القرن التاسع عشر. حياة خيالية، حتى لو ذكرنا بإيجاز الفصول الأكثر إثارة للاهتمام، مع ضرورة اعتبار التغييرات.

مع أن سِرْفادِيّو مؤلفة ومؤرخة ذات باع طويل في هذا المضمار، إلا أنها لم تتمكّن من إسباغ هذه الصفة على هذا "البطل"، حتى أن المرء يتساءل: إذا كان بيلزوني يمتلك حقاً كل هذه الصفات الخارقة، لماذا يبدو منسياً تقريباً اليوم؟ التفسير الذي يقدمه الكتاب بطريقة غير مباشرة، ولكن يمكن تتبعه بسهولة في كل مقطع منه، هو أن بيلزوني بطبيعته كرجل كان لا يستقر على مقام واحد، فهو عالميّ الوجهة، ويعشق حتى النخاع، رغم كونه إيطالياً، الإمبراطورية البريطانية، حتى أنه انخرط في جهاز التجسّس ومكافحة التجسّس الذي كان قد تشكّل حديثاً، وخدم جلالة الملك دون انقطاع، على الرغم من أن هذه الخطوة كانت تناقض بشدة الميول اللاحقة لحركة النهضة الإيطالية، التي تحوّلت في ما بعد إلى القومية، أو إيطاليا الموحّدة والمستقلة في السنوات اللاحقة لموته بفضل جوزيبّي غاريبالدي. 

ألحقت طرق تنقيبه البدائية الضرر بالمدافن الفرعونية

بسردٍ واضح وأنيق، تروي لنا سِرْفادِيّو الحياة الخرافية، لكنها حقيقية تاريخياً، لهذ الرجل الغامض الذي ما زالت صفته المزدوجة، عالم آثار أم لص، تثير الجدال ولم تستقر على نهج واضح. صحيح أن بيلزوني هو ابن الثورة الفرنسية، لكنه في نفس الوقت كان عدوّها أيضاً. فقد كان طوال حياته عدواً لدوداً لفرنسا، قادراً على مواجهة أهداف نابليون المعادية للإصلاح في كل مكان، من بادوفا في شمال إيطاليا إلى مالطا، وانتهاء بمصر. إنها حقيقة مهمة في الواقع لفهم مركز بيلزوني وثقله المحدد بالمقارنة مع اكتشافاته في المجال الأثري، لا سيما تلك التي أنجزها في مصر. ومما لا شك فيه، تقول المؤلفة، أنه لولا تلك الاكتشافات، لما كان بوسع الملايين من السياح الذهاب اليوم لرؤية تماثيل الفراعنة والمومياءات المحفوظة في متاحف لندن واللوفر والمتحف المصري في تورينو والقاهرة. بفضل هذا الإيطالي، أمكن للإمبراطورية البريطانية أن يكون لها مكانها تحت الشمس في علم الآثار المصرية.

الصورة
بيلزوني

وُلد جيوفاني باتّيستا بيلزوني عام 1778، ومنذ سن مبكرة كان يشعر بالسجن في عالم ضيق للغاية لروحه المغامرة. هكذا، ترك مدينته وعائلته واختار طريق السفر. خلال إقامته في روما، استولى عليه شغف علم الآثار، وفي باريس وهولندا أخذ يعمّق دراساته في الهندسة الهيدروليكية. في عام 1803، وصل إلى إنكلترا وانضم إلى فرقة مسرح سادلر ويلز، حيث كان يكسب رزقه مثل شمشون الجبّار.

عملاق طويل القامة، كما يصفه تشارلز ديكنز، عبقري في الابتكار الذي كان يعبّر عنه في شتى الحقول، حيث قاده في ما بعد إلى لذة اكتشاف أسرار الحضارة الفرعونية. كان عملاقاً أيضاً في ما استطاع القيام به والحصول عليه؛ الرأس الضخم لرمسيس الثاني، الموجود حالياً في المتحف البريطاني، هو من بين العديد من القطع الأثرية التي جلبها (نهبها عملياً) بيلزوني إلى لندن. 

كما كان من أوائل الأوربيين الذين وصلوا إلى النوبة، حيث اكتشف بين عامي 1816 و1819، اثنتي عشرة مقبرة في وادي الملوك، بما في ذلك مقبرة سيثي الأول الرائعة، التي تعرف عالمياً باسم KV17 وتشتهر بعدة أسماء أخرى منها مقبرة بيلزوني ومقبرة أبيس وتقع في الوادي الشرقي بوادي الملوك بمصر، وتمثل المثوى الأخير لفرعون مصر سيثي الأول ثاني ملوك الأسرة التاسعة عشرة، وكانت واحدة من أجمل المقابر نقشاً وتزييناً للجدران. وقد دوّن بيلزوني ملاحظاته عن المقبرة مؤكداً أنه عند دخوله إياها لأول مرة، وجد النقوش بحالة ممتازة، كما أكّد عثوره على بعض الفرش والألوان المستخدمة في النقش على الجدران.

وبعد فترة وجيزة من اكتشاف المقبرة، تحديداً في عام 1824، أصدر القنصل العام البريطاني بمصر أوامره بنقل التابوت الملكي إلى إنكلترا وعرضه على المتحف البريطاني، الذي رفض الاحتفاظ به مقابل دفع ألفي دولار أميركي، ومن ثم اشتراه السير جون سوان، الذي قام بعرضه ضمن مجموعته الخاصة في نفس العام. كما تعرّضت المقبرة لدمار شديد عندما قام جان فرانسوا شامبليون (1790-1832) باقتلاع رقعة من النقوش الجدارية الموجودة بالممر الهابط خلال دراسته للمقبرة في ما بين عامي 1828 و1829، وانتزعت أيضاً متعلقات أخرى من المقبرة على يد رفيق بيلزوني، إيبوليتو روسيليني، والبعثة الألمانية التي قامت بدراسة المقبرة عام 1845، وتُعرض هذه المقتنيات المنتزعة الآن في متحف اللوفر والمتحف الأثري الوطني بفلورنسا والمتحف المصري ببرلين.

في عام 1814، خلال رحلة إلى البحر الأبيض المتوسط ، علم بيلزوني أن باشا مصر، محمد علي، كان يبحث عن مخترع قادر على حل مشكلة الجفاف الذي أصاب البلاد. من خلال دراسته في علم المياه، سافر جيوفاني بيلزوني إلى مصر وقدّم مشروعه الآلي إلى الباشا، لكن الباشا لم يتحمس له ورفض الفكرة. لم يفقد بيلزوني الأمل. مفتونًا ببلد لا يزال غير معروف مثل مصر، يقرر في عام 1816 الشروع في أول رحلة اكتشاف على طول نهر النيل.

الصورة
بيلزوني

تتبع ذلك رحلتان أخريان، في عامي 1817 و1818، حيث ولدت في هذه الأثناء أسطورة المستكشف الدؤوب: أخضع بيلزوني نفسه خلالها لجهود بدنية هائلة، وتكيّف للعيش في ظروف قاسية داخل المقابر، معانياً من الحرارة والعطش والجوع. من بين مآثره المختلفة في حدود المستحيل: نقل التمثال الهائل لـ "الشاب ممنون"، الذي يزن حوالي ستة أطنان، من طيبة إلى الإسكندرية، ومن هناك إلى لندن، وهو عمل كان من المستحيل إنجازه في ذلك الوقت؛ استخراج معبد أبو سمبل الصخري من تحت الرمال، نقل مسلة الفيلة التي يبلغ ارتفاعها سبعة أمتار إلى إنكلترا؛ الحفريات في معبد الكرنك؛ اكتشاف قبر الفرعون سيثي الأول؛ العثور على مدخل هرم خفرع، وقد كان يُعتقد أنه بلا مدخل. وأيضاً كان مسؤولاً عن اكتشاف مدينة برنيس على البحر الأحمر.

في عام 1819، عاد بيلزوني إلى بادوفا، حيث تم الترحيب به كبطل، ولكن توقه للاكتشاف لم يتوقف. في عام 1823 غادر مرة أخرى إلى أفريقيا، منجذباً هذه المرة إلى منابع نهر النيجر، التي لم تكن معروفة آنذاك، يقال إن جميع المستكشفين الذين دخلوا مجرى النهر، لم يعودوا أبدًا. وستكون هذه الرحلة مميتة بالنسبة له أيضًا، حيث لقي حتفه في ظروف غامضة، ربما من التسمّم أو ربما من مرض استوائي، في 3 كانون الأول/ ديسمبر في جاتو (اليوم في نيجيريا) عن عمر يناهز 45 عامًا.

كتب جيوفاني باتّيستا بيلزوني تقاريره عن نشاطه في مصر باللغة الإنكليزية، ونشرها في لندن عام 1820 بعنوان: "سرد العمليات والاكتشافات الحديثة داخل الأهرامات والمعابد والمقابر والحفريات في مصر والنوبة، ورحلة إلى ساحل البحر الأحمر بحثًا عن برنيس القديمة". لاقى الكتاب نجاحاً كبيراً، وكذلك المعرض الذي صمّمه بيلزوني وأقامه في العام التالي في القاعة المصرية في بيكاديللي.

تُرجم الكتاب إلى الفرنسية في عام 1822، وإلى الإيطالية من قبل مطبعة الإخوة سونزونيو في عام 1825. صدرت بعد ذلك ترجمتان غير تجاريتين، إحداهما في عام 1924 لحساب بلدية بادوفا، والأخرى بواسطة "ليون كلوب بادوفا" في عام 1982 بمناسبة الاحتفاليات التي أقيمت لتكريمه. في عام 2007، أقام متحف الآثار في بولونيا، عاصمة مقاطعة إميليا رومانيا - في إطار تجديد القسم المصري من المتحف - معرضاً بعنوان "جيوفاني باتّيستا بيلزوني". حسب النقاد، فإن شخصية إنديانا جونز، يمكن أن تجد مرجعًا لها في حياة وشخصية جيوفاني باتيستا بيلزوني. وقد وصف جورج لوكاس بلزوني بأنه "عالم آثار استثنائي ويتمتع بشخصية قوية وفظة".

بعد قرنين، ما هو الحكم الذي يمكن إصداره على نشاط بيلزوني وما هو رأي علماء الآثار الذين خلفوه وشاركوا شغفه، واستمروا في نشاط البحث الشاق في هذا المجال؟ سنستشهد بأحكام مهمة أدناه، ولكن من الضروري توضيح مسألتين أرّقتا صفاء بلزوني عندما كان على قيد الحياة ثم طغتا على ذكراه. الأولى هي علاقته بالقنصل الإنكليزي سالت، والثانية أسلوبه البدائي في التنقيب. في الواقع، لا يزال هناك موقف من التحفظ لدى بعض علماء الآثار الأنغلوسكسونيين اليوم، الذين يتردّدون في قبول حقيقة أن مشعوذاً كان يمكنه أن يجعل الاكتشافات المصرية ذات أهمية كبيرة. 

من وجهة نظرهم كان من الأصح بكثير لو اكتشف القنصل سالت مومياءات الفراعنة، وهو الذي حظي على أي حال على جميع الأوسمة. هذا على الرغم من أن حملته في التنقيب عن الآثار التي استمرت أربعة أشهر في وادي الملوك لم تؤد إلى أي اكتشاف، وأن جميع محاولاته للعثور على مدخل لأهرامات الجيزة كانت قد باءت بالفشل. يميل هذا التيار، الذي لا يزال لديه أتباع اليوم، إلى تقديم بيلزوني كموظف كان يتقاضى رواتب من سالت لقاء اكتشافاته.

الواقع، كما يخبرنا بيلزوني في كتابه، كان مختلفًا تمامًا. دفع سالت بيلزوني للإشراف على نقل تمثال نصفي لما يسمى الشاب ممنون، ثم توقّفت العلاقة بين الاثنين. الفرق الأساسي بين سالت وبيلزوني هو أن القنصل (الذي توجد مجموعته الآن في متحف اللوفر) اشترى الاكتشافات القديمة دون أي جهد من المصريين، في حين قام بيلزوني باكتشافاته بمفرده، بتعبه ودأبه، وبعضها استثنائي مثل المقبرة الشهيرة للملك سيثي الأول.

من ناحية أخرى، على الرغم من أنه كان في حاجة إلى المال أكثر من خصومه، فضّل بيلزوني إلى حد كبير متعة البحث عن سحر العالم القديم. ومع ذلك، لا جدال في أنه تسبّب أيضًا في إلحاق ضرر بأحد أثمن المدافن، وهي السراديب الملكية لأبناء رمسيس الثاني. كتب عالم الآثار الأميركي كينت ويكس، الذي نقّب لسنوات في هذا القبر الضخم، في كتابه "الضريح المفقود": "قام بيلزوني وزوجته والرسام أليساندرو ريتشي ببناء نموذج لهذا السرداب، بطول 15 مترًا تقريباً، مع سلسلة من القوالب المصنوعة من الجص المطلي، بحيث يمكنها نسخ غرفتين بالحجم الكامل من نفس القبر. كانت القوالب بالضبط هي التي أتلفت الأجزاء الأصلية للقبر".

وقد وجّه هوارد كارتر، مكتشف مقبرة توت عنخ آمون، الذي كان مفتشًا لآثار وادي الملوك، التوبيخ نفسه لبيلزوني، حيث يكتب: "الحجر الجيري الذي تم فيه حفر قبر سيتي الأول ونحته، وعلى الرغم من جودته الجيدة، هو شديد الانشقاق ومليء بالتصدعات الطبيعية التي انهارت في كثير من الحالات بمرور القرون، بحيث تقشرت بعض أجزاء السطح وانهارت. بالتأكيد لم يتم تحسين هذا الوضع من قبل المستكشفين الأوائل وصيادي الآثار مثل بيلزوني، الذي دمّر المنحوتات المرسومة من خلال تنفيذ القوالب الرطبة. تمزّقت الجدران المنحوتة بشكل عشوائي للحصول على منحوتات نافرة وقطع رشيقة". 

هناك ما يكفي ويزيد في كتاب غايا سِرْفادِيّو والكتب الأخرى ذات الصلة للتمعن في أخطاء بيلزوني الجسيمة، وفوق كل شيء في السهولة التي ما زالت تنهب بها كنوزنا وذخائرنا حتى يومنا هذا.


*كاتب سوري مقيم في ميلانو

الأرشيف
التحديثات الحية
المساهمون