غالبًا ما نتساءل عن صورة الفنان من باب الفضول المعرفي: أتشبه أعماله أم تنزاح عنها؟ وإلى أي حد؟ يراودني هذا السؤال كلما أعجبت بكاتب أو فنان، وارتدت عوالمه الظاهرة أو الباطنة. ورغم أن البنيوية في قتلها للمؤلف، قد حجبت عنا حياته ردحًا من الزمن، إلا أننا في بواطننا وبفعل تربيتنا في دروب الأحياء الشعبية والمدن العتيقة، تنمّى لدينا الفضول واتخذ طابعًا ثقافيًا. كذا، حين رأيت أعمال جورج بهجوري الكاريكاتورية أواخر السبعينيات من القرن الماضي، كان التوق كبيرًا للتعرف إلى الفنان. إلى أن صادفته مرة مع بعض الأصدقاء بباريس. طلعته ونظرته وبسمته وكلامه تترك في الواحد منا أثرًا يعادل أو يجاوز أحيانًا أعماله. إنه يحملها في دواخله ومنه تصدر جسدًا ومخيلة. حينها ندرك أن كثيرًا من الأعمال لا تصدر عن الطبقة العميقة من اللاوعي، بل عن ذلك المزيج من العناصر الذي يتبلور في الشخصية وعوالمها اليومية والثقافية أيضًا؛ وأن الكثير من الفنانين والكتاب قد يبدون انطوائيين لا ظل لهم، يحملون جسدهم مثل درعٍ واقٍ لبواطنهم وطويّتهم، تقيهم حرّ العالم ولا تسرِّب إليهم إلا الأشياء التي تلتقطها حواسهم. في حياتنا القصيرة نلاقي ونصادق النوعين معًا. وندرك أيضًا موطن القوة لدى الواحد والآخر، في الانطواء الحِمائي كما في السيولة الاجتماعية والتواصلية.
اقــرأ أيضاً
من بهجورة، تلك القرية المصرية الصغيرة في محافظة قنا المصرية، إلى باريس حيث استقر الفنان في بداية السبعينيات، كانت المسيرة حافلة بالتحولات. فبعد الدراسة في القاهرة والاشتغال في بعض المجلات كـ روز اليوسف في بداية الخمسينيات، حيث سيلتقي بالكاتب المعروف إحسان عبد القدوس، حين كان الكاريكاتور فنًا جنينيًا، وكانت الصحافة مزدهرة والثقافة المصرية في عزّ ازدهارها وأوج مركزيتها العربية. لم يتوان عبد القدوس، الذي كان وقتها مديرًا لـ روز اليوسف، في إدماجه في الوسط الفني والثقافي. فكانت بداية شهرة جعلته الصديق الأكبر للكتاب والمثقفين، بحيث إن نجيب محفوظ كان معجبًا بالطابع المحلي والبصمة الريفية للفنان، فقال في حقه بأسلوب يكاد يكون جدليًا: "فنّك يصبح عالمياً من تلقاء محليته". كان أول رسم كاريكاتوري للفنان في روز اليوسف، ولعبد الناصر بالتحديد. وكان "الريس" سيرى نفسه لأول مرة بأنف طويل وملامح مشوهة. أضحك يا ترى أم ابتسم؟ لا شكّ في ذلك، وإلا لكان مصير هذا الفنان، مصير من يرسم بعض الملوك والرؤساء العرب الذين يعتبرون وجههم مقدسًا وما هو بذلك، فيمنعون أي كاريكاتور لشخصهم. وإذا كان عبد الناصر يضحك من رسوم بهجوري الكاريكاتورية، ولم يمنعها أبدًا، فإن مشكلاته بدأت مع السادات خاصة بعد كامب ديفيد التي انتقدها بقوة. أما حسني مبارك، فلم يسمح له أبدًا برسم كاريكاتوري له، وإن كانت عقيلته قد أحست بالمرح عند رؤية صورها الكاريكاتورية، تلك الصور التي يخطها بهجوري بسرعة فائقة.
لا يعرف الكثيرون من إبداع بهجوري غير الكاريكاتور. فعدد رسامي هذا الفن كانوا قلة، وأندر منهم كان الفنانون الموهوبون اللاذعون الذي يصيبون من العالم والأحداث مقتلًا. رسومه التشكيلية كما أعماله الكاريكاتورية، تنبع من لمسة وخط، لا تثقل اللوحة بل تجعل منها مساحة خفيفة تبلور المعنى في كل شيء. عن ذلك يقول بهجوري: "الخط قيثارة لها نغمها الجميل في أذني، وأنا أحكي به وأبوح بما في داخلي من مشاعر، لذلك لا ينقطع الخط إلا نادراً. لا يتوقف عند نقطة ولا ينكسر عند زاوية، لكنه غالباً يتعرج ويتلوى في انحناءات كثيرة أو دوران للأقواس كما نداء المؤذن أو جرس الراهب". لعل هذا بالضبط هو ما يفسر استعمال الفنان للتداوير والدوائر. كل الكائنات تتحول إلى وجه مدور يوحي بالطيبوبة والحب والسكينة.
بهجوري فنان متعدد، فهو إن اكتوى بالكاريكاتور سنينًا طويلة، فقد أخرجه التشكيل والنحت من نمطية العلاقة مع العالم. وهو أيضا فنان غزير الإنتاج. لا تراه إلا وهو يتأبط كناشه، يترصد الحالات والوضْعات التي تحلو له، أو تمنح نفسها لمخيلته، يتصيّدها مثل طفل يتصيد فراشات الحياة. ولكون عينه اللاقطة تجتذب الجمّ الوفير من مكونات المرئي، فإنه حين يرسم بالزيت مشاهده - التي تضم في غالب الأحيان أناس الشعب من موسيقيين أو حمالين أو فلاحين أو بائعين - فإنه يراكب بينها أو يقاطع الأجساد وكأنه يرغب في أن يجمع في لوحة واحدة مجموع إحساساته البصرية. هكذا فإن خفة الكاريكاتور الإيحائية تنحو هنا لأن تتحول إلى نظرة بانورامية. ولا يبقى منها إلا لمسة تحويل الوجه والجسد. هذه التحولات في اللوحة التشكيلية تمنحها مشروعيتها، وفي الآن نفسه تربطها بعروة وثقى بالممارسة الكاريكاتورية، التي تُطرَد من الباب فتعود من النوافذ، كي تؤكد لنا أن فن بهجوري أشبه بالقبة المزخرفة، يمكن أن نرى في كل مرة جانبًا منها حسب رغبتنا.
اقــرأ أيضاً
أما اللوحات ذات الألوان المائية، فإن خفتها الأثيرية تبدو من خلال المساحات الفارغة، التي تترك الشخصية أو الشخصيات تتمرْأى أمامنا وكأنها تريد أن تحتل الواجهة. وحين تكون المرأة موضوعًا لهذه اللوحات، تبدو في شموخ يُبين عن قوة حضورها واستثنائية جمالها. حين يمر بهجوري إلى التشكيل بمختلف مناحيه، فإن تقنيته التدويرية تستحيل بشكل ضمني إلى جمالية تعبيرية حتى وهي تستوحي تكعيبية الوجوه والأجساد. هذا البرزخ الأسلوبي يمكنه من الحكي بشكل موارب، ويبعد فنه عن الحكائية ليزج به في تجربة تمزج بكل مركّب بين المشهدية التشخيصية وبين التسامي التعبيري، الرمزي والكنائي أيضًا.
إذا كان الرسم في الكاريكاتور يشكل عصب تملّك المرئي، فإن التشويش عليه وخلخلة معاييره وتحويل الخط إلى لطخة، هو ما يمكّن بهجوري باستمرار من الخروج من لحظية الكاريكاتور وطابع النكتة والكاريكاتور فيه، إلى أفق أرحب. يتمثل ذلك في تحول السخرية إلى نبرة مأساوية ومازحة في الآن نفسه، تلعب على عمق امتلاك العالم وحرية البسمة التي ترتسم على شفاهنا ونحن ندخل عالمه الشاسع، الغني والمرح، بطفولتنا، حاملين إياها في أعيننا.
اقــرأ أيضاً
لا يعرف الكثيرون من إبداع بهجوري غير الكاريكاتور. فعدد رسامي هذا الفن كانوا قلة، وأندر منهم كان الفنانون الموهوبون اللاذعون الذي يصيبون من العالم والأحداث مقتلًا. رسومه التشكيلية كما أعماله الكاريكاتورية، تنبع من لمسة وخط، لا تثقل اللوحة بل تجعل منها مساحة خفيفة تبلور المعنى في كل شيء. عن ذلك يقول بهجوري: "الخط قيثارة لها نغمها الجميل في أذني، وأنا أحكي به وأبوح بما في داخلي من مشاعر، لذلك لا ينقطع الخط إلا نادراً. لا يتوقف عند نقطة ولا ينكسر عند زاوية، لكنه غالباً يتعرج ويتلوى في انحناءات كثيرة أو دوران للأقواس كما نداء المؤذن أو جرس الراهب". لعل هذا بالضبط هو ما يفسر استعمال الفنان للتداوير والدوائر. كل الكائنات تتحول إلى وجه مدور يوحي بالطيبوبة والحب والسكينة.
بهجوري فنان متعدد، فهو إن اكتوى بالكاريكاتور سنينًا طويلة، فقد أخرجه التشكيل والنحت من نمطية العلاقة مع العالم. وهو أيضا فنان غزير الإنتاج. لا تراه إلا وهو يتأبط كناشه، يترصد الحالات والوضْعات التي تحلو له، أو تمنح نفسها لمخيلته، يتصيّدها مثل طفل يتصيد فراشات الحياة. ولكون عينه اللاقطة تجتذب الجمّ الوفير من مكونات المرئي، فإنه حين يرسم بالزيت مشاهده - التي تضم في غالب الأحيان أناس الشعب من موسيقيين أو حمالين أو فلاحين أو بائعين - فإنه يراكب بينها أو يقاطع الأجساد وكأنه يرغب في أن يجمع في لوحة واحدة مجموع إحساساته البصرية. هكذا فإن خفة الكاريكاتور الإيحائية تنحو هنا لأن تتحول إلى نظرة بانورامية. ولا يبقى منها إلا لمسة تحويل الوجه والجسد. هذه التحولات في اللوحة التشكيلية تمنحها مشروعيتها، وفي الآن نفسه تربطها بعروة وثقى بالممارسة الكاريكاتورية، التي تُطرَد من الباب فتعود من النوافذ، كي تؤكد لنا أن فن بهجوري أشبه بالقبة المزخرفة، يمكن أن نرى في كل مرة جانبًا منها حسب رغبتنا.
أما اللوحات ذات الألوان المائية، فإن خفتها الأثيرية تبدو من خلال المساحات الفارغة، التي تترك الشخصية أو الشخصيات تتمرْأى أمامنا وكأنها تريد أن تحتل الواجهة. وحين تكون المرأة موضوعًا لهذه اللوحات، تبدو في شموخ يُبين عن قوة حضورها واستثنائية جمالها. حين يمر بهجوري إلى التشكيل بمختلف مناحيه، فإن تقنيته التدويرية تستحيل بشكل ضمني إلى جمالية تعبيرية حتى وهي تستوحي تكعيبية الوجوه والأجساد. هذا البرزخ الأسلوبي يمكنه من الحكي بشكل موارب، ويبعد فنه عن الحكائية ليزج به في تجربة تمزج بكل مركّب بين المشهدية التشخيصية وبين التسامي التعبيري، الرمزي والكنائي أيضًا.
إذا كان الرسم في الكاريكاتور يشكل عصب تملّك المرئي، فإن التشويش عليه وخلخلة معاييره وتحويل الخط إلى لطخة، هو ما يمكّن بهجوري باستمرار من الخروج من لحظية الكاريكاتور وطابع النكتة والكاريكاتور فيه، إلى أفق أرحب. يتمثل ذلك في تحول السخرية إلى نبرة مأساوية ومازحة في الآن نفسه، تلعب على عمق امتلاك العالم وحرية البسمة التي ترتسم على شفاهنا ونحن ندخل عالمه الشاسع، الغني والمرح، بطفولتنا، حاملين إياها في أعيننا.