أمّ مطلّقة (فيرجيني أفيرا) تجرّ ابنها (كايسي كلاين) في مغامرة صحراوية، بعد اكتشافها أنه وقع في حياة عنيفة وفارغة من أي معنى. الهدف؟ تجديد العلاقة بينهما. في المساحات لشاسعة لقيرغيزستان، يواجهان طبيعة قاسية وخطرة لا تخلو من قطّاع طرق، ومن أناس يساعدانهما. والأهمّ من هذا كله، أنّهما يواجهان، للمرة الأولى، أسئلة شخصية كانت مؤجّلة دائمًا.
باختصار هذه خطوط عريضة لـ"أنّ نستمرّ"، للبلجيكي جواكيم لافوس، الذي أنجر عام 2012 أحد أروع الأفلام البلجيكية: "حتى فقدان العقل"، الذي فازت عن دورها فيه إيميلي دوكن بجائزة التمثيل في قسم "نظرة ما" في الدورة الـ65 (16 ـ 27 مايو/ أيار 2012) لمهرجان "كانّ".
جديده هذا ـ المعروض في برنامج "أيام فينيسيا"، في الدورة 75 (29 أغسطس/ آب ـ 8 سبتمبر/ أيلول 2019) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي" ـ دراما حميمية مفاجئة، إذْ تبتعد عن كلّ ما أنجزه سابقًا هذا السينمائي الأربعيني، المشغول بالعلاقات البشرية، والمهموم بالطبيعة الآدمية.
"العربي الجديد" التقت لافوس، وكان معه هذا الحوار.
ـ أعتقد ذلك. عندما كنتُ في الثامنة من عمري، أتذكّر أنّي حلمتُ بستيفن سبيلبرغ بعد مشاهدتي "إي. تي." (1982). حلمتُ أنّي كنتُ في استديو سينمائي برفقة رجل ملتحٍ، كان يشرح لي أن أحداث الفيلم ليست حقيقية، وأن كلّ ما رأيته على الشاشة وتحمّستُ له وأحببتُه كان تمثيلاً بتمثيل. ثم شرح لي والدي مَن هو سبيلبرغ، وكيف تُصنع الأفلام. أعتقد أن هذا ظلّ في داخلي فترة طويلة، قبل أن أقرر العمل في السينما. ثم في العاشرة من عمري، بدأتُ أنحاز إلى الوثائقي، فوددتُ أن أكون مراسلاً. لكن الحياة فرضت عليّ التوقف عن الحلم بعض الوقت، لأسبابٍ شخصية.
التحليل النفسي الذي خضعتُ له بعث في داخلي رغبة العودة إلى السينما. فجأةً، وجدتني أتذكّر الحلم الذي رأيته وأنا في الثامنة، فقلتُ في ذاتي: "هيّا بنا".
(*) أتجد نفسك في شخصية سامويل؟
ـ جزئيًا، نعم. أجد نفسي أيضًا في الأمّ. وكذلك في الطائفة القيرغيزستانية التي نتعرّف عليها في الفيلم. السينمائيّ يتماهى مع الشخصيات كلّها التي يُصوّرها، لا مع شخص واحد فقط.
(*) ما العنصر الذي انطلقتَ منه لإنجاز الفيلم؟ سامويل؟ أمّه؟ المكان الذي هو شخصية بحدّ ذاته؟
ـ بدايةً، يجب ألاّ ننسى أن الفيلم اقتباس من رواية. أحببتُ قدرة الأصل الروائي على وصف العلاقة بين الأمّ وابنها. هذا موضوع قلّما طُرح في الروايات. بالنسبة إلينا هي أمّ. نرى ذلك بوضوح. لكن الرواية تنبش ما هو أعمق من السطح، وتُرينا الأمّ امرأة مكتملة الأنوثة، خصوصًا عند بلوغ الكلام بينها وبين ابنها مسائل كالجسد والرغبة والغيرة من الأب. يصعب كثيرًا على الابن أن يرى أمّه أنثى. لكن الموضوع أعمق من هذا. السؤال الكبير الذي يطرحه الأبناء دائمًا: بمَ تحلم أمهاتهم؟ وهل عليهم أن يعلموا بمَ تحلمن؟
(*) أيشغلك هذا السؤال منذ زمن بعيد؟
ـ أجل. أكان واعيًا أم لا، السؤال موجود. إذا أردنا أن تكون علاقة الرجل جيّدة مع النساء، يجب أن تكون علاقته مع أمه صحية ومتجانسة. هذا هو الأساس. كلّ شيء يأتي من هنا، ويحدّد نوع العلاقة. يتردّد أن العلاقة بين الجنسين تعبر حاليًا في أزمة. لا أؤمن بالتعميم، بل أرى أن الأشياء في تحسّن لافت للانتباه. أن يقتنع الرجل أن أمّه ليست فقط أمًّا، بل هي امرأة لديها رغبات، يجعله أنضج، شرط ألا يعلم كلّ شيء. في هذا الفيلم، تساءلتُ: هل يستطيع سامويل أن يتعايش مع ما سيعرفه عن أمّه؟ الردّ على هذا السؤال أتركه للمُشاهد.
(*) هناك الكثير من المسكوت عنه في الفيلم.
ـ مع ذلك، الأم لا تبخل بالكلام. تقول الكثير عن علاقتها مع زوجها السابق. في طبيعة الحال، هي لا تقول كلّ شيء. الأمّهات لا يقلن كلّ شيء. هل هناك أمّهات يقلن كلّ شي؟ لا أعتقد. لا يوجد شخص يقول كلّ شيء.
(*) العلاقة التي تربط الأمّ بأولادها لا تطرحها للمرة الأولى، بل كانت موضوع تحفتك السينمائية "حتى فقدان العقل".
ـ هذا الطرح موجود في أفلامي كلّها تقريبًا. صحيح هو موجود في "حتى فقدان العقل"، لكن أيضًا في "مِلك خاص"، تمثيل إيزابيل أوبير، المعروض في مهرجان فينيسيا قبل 12 عامًا. هذا الهمّ يُطاردني منذ أعوام. أولاً، لأني ابنٌ، ثم لأن لديّ ابنًا لديه أم. أحب مراقبة علاقتهما، لأنها تشوّقني جدًا. سينمائيًا، هذا يُشرِّع الأبواب على أنواع مختلفة من السرد.
(*) لم أشعر البتة أننا في فيلم مقتبس من رواية.
ـ يسعدني أن أسمع هذا. يجب القول إني اقتبستُ بتصرّف. في نظري، الأدب هو فنّ الحرية. السينما فنّ القيود. هذا كلام بروسون لا كلامي. القيود توجِّه السينمائي في النحو الذي يكتب فيه. عليه أن يعتادها ويتكيّف معها. وجود أحصنة في الفيلم، هذا قيود. كذلك الطبيعة التي تصوّر فيها. لكن، يستهويني هذا. أحبّ العمل في ظروفٍ كهذه.
في هذا الفيلم تحديدًا، كان عندي المزيد من الإعجاب، لأني وجدتني كحال الشخصيتين اللتين تواجهان القيود بدورهما. الديكور في الفيلم شخصية بحدّ ذاته، وهذا أيضاً من القيود التي تواجهها الشخصيتان. عليهما التأقلم مع الخوف والبرد ومصاعب التنقّل في الصحراء.
(*) هل تجري البحوث عادةً في الموضوع الذي تصوّره؟
ـ نعم. قمتُ بالرحلة في الصحراء من أجل الفيلم. إلاّ أني لم أستطع التصوير فيها لأسباب لها علاقة بالتأمين. لكن، في المغرب، يوجد ما يشبهها. لهذا السبب، وافقتُ على التصوير في المغرب. جمال الديكور الطبيعي ضروري. بسبب هذا الجمال، يحدث اللقاء بين الأم والابن. الجمال يمدّهما برغبة في البوح.
التصوير في المغرب، هذا شيء أتمنى ألا تكشفه لقرائك. طبعًا لا أسمح لنفسي بأن أقول لصحافي ماذا يجب أن يكتب، لكني أفضّل ألاّ يعلم المُشاهد أين صُوِّر الفيلم، إلاّ بعد مشاهدته. هذا أشبه بأن يقوم كوبولا بالحملة الترويجية لـ"القيامة الآن"، مُتحدّثًا عن الفيليبين بدلاً من فيتنام.
(*) للفيلم سمة بصرية قوية، رغم أنه مليء بالكلام.
ـ مع مدير تصويري جان فرنسوا هانغان، أردنا فيلمًا أشبه برحلة يرافقنا فيها الجمهور، الذي أكنّ له احترامًا كبيرًا، وأنجز الأفلام له. في الرواية، الحكاية تحدث في بلد متخيّل، في أحد بلدان شرق آسيا المتخيّلة.
(*) يكاد يكون فيلمًا ينتمي إلى نوع الـ"وسترن".
ـ يعجبني أن تقول هذا. في طفولتي، لم أكن أطالع القصص المتسلسلة، لكني كنت أعشق "بادي لونغواي"، وهي قصص "وسترن" للأطفال، أبطالها عائلة من الرحّل. أدركتُ لاحقًا أنها أثّرت فيّ عميقًا.
(*) ولكن، أنتَ تغذّيت أيضًا من السينما الأميركية.
ـ مخرج طفولتي هو سبيلبرغ. أحببتُ السينما من خلاله، علمًا أن الأفلام التي أُنجزها لا علاقة لها بأفلامه. سبيلبرغ أيضًا كان يحبّ (فرنسوا) تروفو المختلف عنه. ثم اكتشفتُ سينمائيين مثل (موريس) بيالا أو (راينر فرنر) فاسبندر.
(*) العلاقات بين البشر صعبة ومعقّدة في أفلامك.
ـ ما يثير شغفي في السينما هو الشخصيات والروابط التي تنشأ بينهم، واللقاءات التي تتولّد. هذا أكثر ما يهمّني.
(*) أكثر من الحكاية نفسها؟
ـ الشخصيات هي التي تصنع الحكاية في أفلامي، وليس العكس. بهذه الطريقة، أحاول الاقتراب من الحياة.
(*) كيف تعمل مع الممثّلين؟
ـ أعمل معهم كثيرًا قبل البدء بالتصوير. أكتب الأدوار وإياهم. لا نخوض تمارين كثيرة، لكننا نمضي وقتًا كثيرًا ونحن نتحدّث عن الفيلم.
(*) هل تحتاج إلى أن تعيش حالة خصام لإنجاز فيلم كبعض السينمائيين؟
ـ أحتاجها في مضمون الفيلم نفسه، لكن ليس مع مَن يحيط بي ويعمل معي. عادة، كلّما انطوى الفيلم على خلافٍ، أنجزته في جوّ من الوئام.
(*) هل تعرّف عن نفسك باعتبارك مخرجًا بلجيكيًا؟
ـ نعم. أعيش في بروكسل وأعمل فيها. عادةً، أصوّر فيها، ما عدا هذا الفيلم.
(*) أين ترسو السينما البلجيكية حاليًا؟
ـ هي في حال جيدة. السينما في بلجيكا مدعومة سياسيًا. التمويل متوافر. حاليًا، نصوّر أفلامًا كثيرة في بلجيكا. هناك سينماتان: واحدة ناطقة بالفرنسية وأخرى بالفلمنكية. لا انصهار كبيرًا بينهما. جمهور السينما الفرنكوفونية لا يشاهد أفلام السينما الفلمنكية، والعكس صحيح. لكن جمهور أفلامنا ليس في بلجيكا وحسب، بل في فرنسا وسائر العالم. بلجيكا بلد صغير، لا تتعدّى الإيرادات فيه 20 ألف مُشاهد، بينما تبلغ في فرنسا الـ300 ألف تقريبًا.
(*) هل لديك أفكار كثيرة لأفلام في أدراجك؟
ـ عندي أفكار، لكن ليس لأفلام عديدة. حاليًا، أنا في مرحلة كتابة. هناك أكثر من حكاية، أرغب في تصويرها منذ زمن بعيد. تكمن الصعوبة في وضعها على الورق. الحكاية التي أكتبها حاليًا، والتي أعمل عليها منذ أربعة أشهر، تلازمني منذ أكثر من 20 عامًا. عندما أعمل على فيلم لا أفكّر في غيره. كلّ ما أستطيع القول في شأنه أنه سيُعيدني إلى ممثّلين عملتُ وإياهم سابقًا.