جزر فيجي: فردوس في قبضة الفقر والإستعمار

14 ديسمبر 2014
أطفال فيجي...ابتسامات في عذوبة مياه المحيط (Getty)
+ الخط -
رحلة بعيدة جداً، لكنّها مختلفة بكلّ المقاييس. في الطائرة أنظر بدهشة من نافذتي، تبدو البلاد التي أقصدها مدهشة إلى درجة خيالية. 

في وسط الجزء الجنوبي، المترامي الأطراف، من المحيط الهادئ وفي عزلة مياهه التي لا حدود لها، تقع جمهورية جزر فيجي التي تفتح أمام المسافر أبواباً جديدة لم يطرقها في رحلاته السابقة.

مئات الجزر الصغيرة شكّلتها حرارة البراكين قبل أكثر من مئة وخمسين مليون سنة، ترسو فوقها جبال وعرة تحيط بها شواطئ رملية، هناك أنشأت فيجي أسلوب حياة متميّزاً ونابضاً بالحياة وراء ملاذ حدودها المرجانية.


لا خطر حقيقياً هناك، رغم أنّ بعض النشاط البركاني الجوفي لا يزال ملحوظاً في جزيرتي فانوا ليفو وتافيون. فبعد تاريخ طويل من الانفجارات البركانية، صارت فيجي لصيقة ببيئتها متصالحة معها، وهي بالأصل مأهولة بالسكان منذ الألف الثاني قبل الميلاد.

الأرخبيل المتكوّن من أكثر من ثلاثمئة وثلاثين جزيرة، ثلثها فقط مأهول بصفة دائمة، إضافة إلى أكثر من خمسمئة جزيرة صغيرة، تبلغ مساحتها تقريباً 18,300 كلم2.
الجزيرتان الرئيسيتان هما فيتي ليفو وفانوا ليفو، وهما تضمّان 87 بالمئة من السكّان، الذين لا يتخطّى عددهم المليون نسمة. تقع العاصمة الفيجية، سوفا، في جزيرة فيتي ليفو، وهي أكبر المدن الفيجية، وتتمتّع بمركزية سياحية واقتصادية.

وجوه طيبة سمراء وقلوب بيضاء، تمدّ أياديها إليك فور وصولك إلى الجزيرة. ابتسامات أطفال فيجي العذبة، تنزع من قلبك ضجيج المدن وتزاحم الوجوه وتعطيك قسطاً من الراحة تنسلّ إلى أعماق روحك. وفي مهرجان الفرح هذا، لا يسعك أن تفوّت فرصة لعب الرجبي، وهي الرياضة الشعبية الأولى في البلاد، وتعتبر أيضاً الرياضة الوطنية، إذ سبق للفريق الفيجي الوطني أن حقّق انجازات عالمية بارزة، يتباهى بها الصغار قبل الكبار.

العادات القديمة والتقاليد الحميدة تجعل حسن الضيافة فرضاً أخلاقياً اجتماعياً في المكان.
سكّان فيجي يرقصون لك ترحيباً بقدومك، يغنّون ويلبسونك عِقداً من الزهور المحلية، وفي تلك اللحظة تحديداً، وأنت تستمتع بمشاهدتهم، ترفع نظرك إلى الطبيعة خلفهم وتتساءل: أليست هذه هي صورة الجنّة التي تخيّلتها منذ طفولتك؟

ولكنّ الأمر ليس كذلك تماماً، هذه ليست جنّة، لفقرائها على الأقلّ. فحين تخرج من المنتجعات المخصّصة للسائحين ترى الوجه الآخر لهذه الجزر. تستشعر وجود المستعمر الخفيّ, رائحة الفقر تفوح من تشقّقات جدران البيوت الصغيرة، بيوت تفتقر لمقوّمات الحياة الرئيسية.

الكهرباء اختراع سمعوا به فقط، لم ينعموا بنورها يوماً. لا تزال الإضاءة بدائية، لكنّها تجعل المكان متصالحاً مع نفسه، وكأنّ دخول مصباح كهربائي يبدو نافراً وعصيّاً على التقبّل هناك.
في الزاوية مدرسة صغيرة يراها الأطفال ملاذهم الأوّل والأخير، يحبّونها بجنون، أكثر بكثير مما يفعل أطفال الدول المتقدّمة أو حتى التي في طور التقدّم. المدرسة هنا خيار وحيد. لا مدن ألعاب ولا حدائق عامة ولا صالات سينما. منظّمون جدّاً رغم حياتهم العشوائية، وكأنّهم يبحثون عن المعرفة خارج أسوار سجنهم المفتوح.

المسيحية هي الديانة الرسمية للجمهورية. أكثر من تسعين بالمئة من الفيجيين الأصليين مسيحيّون. المهاجرون هم من الهندوس والمسلمين... طغيان المسيحيين لا يمنع انتشار عدد من المساجد الصغيرة والمتقشّفة. وقد انتقلت الديانتان الهندوسية والاسلامية إلى الجزر الفيجية عبر العمالة المهاجرة من شبه الجزيرة الهندية، أوائل القرن العشرين.
في كنيسة متواضعة زاهدة، هناك فسحة لأكثر من التعبّد، فالسائحون يقصدونها بمختلف جنسياتهم ودياناتهم للتبرّع لأهالي الجزر الصغيرة الفقراء جداً.

يعمل معظم أهل الجزر الفيجية في المنتجعات السياحية ومرافقها المختلفة، تحت إدارة المستشمرين الانجليز، يقدّمون الخدمات للسياح، ويقضون معهم أجمل اللحظات، يوزّعون عليهم الفرح رغم أنّ في ما في صدورهم هو سلام داخلي هشّ.

بالرغم من أنّ الإنجليز اشتروا أراضي ومساحات شاسعة في هذه الجزر من أصحابها بطرق مشروعة وبثمن السوق المتواضع آنذاك، ورغم أنّ كلّ ما قاموا به قانوني وواضح كعين الشمس، لكنّ شمس الاستغلال أشرقت باردة على سكان فيجي الأصليين.
بدأت الحكاية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، حين استكشف الهولنديون والبريطانيون هذه الجزر، و أصبحت مستعمرات بريطانية حتى عام 1970.
بسبب وفرة الغابات والمعادن والثروة السمكية، تعتبر فيجي واحدة من أكثر الاقتصادات نمواً بين جزر المحيط الهادئ، ولذلك دام الاحتلال البريطاني مائة عام تقريباً، حيث بقيت تلك الأراضي تحت إشرافهم، ومنحوا الفيجيين وظائف عدّة على أراضيهم.

وما تزال المصادر الرئيسية المغذّية لاقتصاد فيجي حتى اللحظة، تأتي من صناعة السياحة وصادرات السكّر. ومع مرور الوقت أصبحت هذه الجزر حضارة مهيبة كانت معروفة بين المستكشفين الأوروبيين الأوائل بآكلي لحوم البشر ومحاربيها الأقوياء، وحين فرض البريطانيون سيطرتهم عليها احضروا معهم العادات الغربية، وأحضروا معهم أعداداً كبيرة من المهاجرين ليزرعوا حقول قصب السكر الخصبة، وأحضروا الهنود معهم أيضاً، أما آخر الواصلين إلى هنا فهم سيّاح يعتبرون فيجي فردوساً استوائياً.

ثمار جوز الهند المتناثرة وعناقيد المنجا الأورجوانية وزرقة المحيط النقي ورمال بيضاء كريستالية وأسماك بألوان لم تر مثيلا لهاً، هذا هو الجمال الذي جعل فيجي ذائعة الصيت.
كلّ الكائنات هناك تتسلّح بالقوى التي منحها لها تراث الجزر التي تكافح للحفاظ عليه.
أجيال فيجي متعبة. العزلة التي حافظت على طقوسهم القديمة لم تعد توفّر ملاذاً آمناً لبناء مستقبلٍ في عالم متغيّر، فرغم بعدهم عن البر الرئيس "الجزيرة الأم"، ومهما كانوا فخورين باستقلالهم، هم لا يزالون في قبضة الاستعمار الرحيم.
دلالات
المساهمون