جريمة خاشقجي والقضية السعودية

20 أكتوبر 2018
+ الخط -
تُعد قضية تغييب الإعلامي السعودي جمال خاشقجي، داخل قنصلية بلاده في إسطنبول، ومن ثم الكشف عن مصيره الذي أسفر عن معلوماتٍ تفيد بتعذيبه ومن ثم قتله وتقطيع أوصاله، تُعد امتداداً لسجل العربية السعودية في القمع الذي ميَّز الحكم فيها عشرات السنين. كما أنها تعد، في الوقت نفسه، واحدة من قضايا كثيرة طاولت سعوديين آخرين، لم يُقيَّض لهم الحصول على الاهتمام، وعلى التغطية الإعلامية التي قيّضت لقضية خاشقجي، وذلك لأسباب ذاتية، تخص موقع خاشقجي نفسه، وأسباب موضوعية تدخل في إطارها حالة التفجُّر الإعلامي في أيامنا هذه، مقارنةً بخفوت صوته طوال سنوات حكم العائلة المالكة في المملكة. وتشكل هذه الواقعة والوقائع التي سبقتها، علاوة على حال حقوق الإنسان في المملكة، قضيّةً بقيت عصيةً على الحل، حيث لا يبادر أي طرفٍ دولي إلى طرحها، في وقتٍ تتضافر الجهود الدولية إلى إبراز قضية خاشقجي، وتتعامى، في الوقت عينه، عن القضية الأساس التي أوصلت إلى التعامل مع الرجل بتلك الطريقة.
منذ تأسيس المملكة، يعيش "المواطنون" في السعودية معضلةً، يتبيّن، بشكل دائم، أنها المعضلة الأشد حساسية بين جميع الدول العربية. وانطلاقاً من أن البلاد لا تتوفر على قانون وضعي يحدد سلطات الحاكم، والأمراء وحتى الوزراء وحكام المناطق، فإن غياب هذا القانون يجعل سكان البلاد عرضة لأي نوع من أنواع القمع والانتهاك التي لا تشبه مثيلاتها في البلدان الأخرى. وبسبب غياب هذا القانون، ولا سيما قانون العقوبات، المعمول به في كافة البلدان، تُطلق يد "أولي الأمر" في ابتداع أنواع العقوبات التي تطاول مخالفي القوانين، أو من يتهمون بـ"الخروج على ولي الأمر". وفي هذه الحال، يجد كل ساكن في المملكة نفسه عرضةً للاعتقال التعسفي، أو مواجهاً لعقوبة الإعدام، تبعاً لما يراه قضاةٌ يستمدون تشريعاتهم وأحكامهم من تعليمات السلطات العليا.
وجاءت قضية الاعتقال الجماعي لأمراء ورجال أعمال ومسؤولين حاليين وسابقين كثيرين، 
بدعوى مكافحة الفساد، في 4 نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، وإيداعهم في فندق الريتز، لتؤكد أنه لا يمكن لأحد من القاطنين في هذه المملكة، مهما علا شأنه، ومن خارج العائلة المالكة، ضمان أمنه الشخصي في وجه عسف السلطات. وقد انضم هؤلاء إلى مئات، وربما آلاف، من المعتقلين تعسفياً، سواء من المعارضين السلميين، أو الحقوقيين والمثقفين ورجال الدين من دعاة الإصلاح، ممن لا تطاولهم المحاكمات، وإن طاولتهم فإن أحكاماً جائرة تصدر بحقهم، حيث لا يستطيع محاموهم الدفاع عنهم بالشكل اللائق، فتصدر بذلك أحكام قضائية، وأحكام إعدام لا يمكن نقضها، وغالباً ما تُنتزع الاعترافات التي قادت إلى تلك الأحكام انتزاعاً تحت التعذيب.
اعتبر معلقون ومحللون أن قتل خاشقجي هو أحد ملامح سياسة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، التي اتصفت بالتعجل والاندفاع من دون أي ضوابط. وإن كان هذا أكثر ما يمكن توجيهه من انتقادات لسياسة بن سلمان، فإنه يعد نوعاً من التعامي عن واقع الحال في السعودية قد حل لدى كثير من منتقدي سياساته، وخصوصاً واقع التمايز الطبقي في المجتمع السعودي الذي تسبّبه سياسة الاستئثار بثروات البلاد والامتناع عن توزيعها التوزيع العادل على الشعب، أو حتى إصابة الشعب حصة يسيرة منها. وعلى الرغم من التفاتهم، أحياناً، إلى واقع حقوق الإنسان، ورصد المنظمات الدولية الانتهاكات التي تطاول الحريات، وتؤدي بكثيرين إلى السجون أو حتى الإعدام، فإن واقع الحرمان لا يقل قساوةً عن واقع انتهاك حقوق الإنسان. بل هو الواقع الذي دفع إلى خروج الأصوات التي تنادي بالإصلاح، والتي يقع عليها الانتهاك الجسدي الذي تطالب تلك المنظمات بوقفه، وهو الواقع أيضاً الذي دفع خاشقجي ثمنه، حين رفع صوته منادياً بالإصلاح في بلاده.
الآن، ومع تلك الميكانيكية التي تعامل بها القتلة مع قضية خاشقجي، والذين تبيّن أن لهم يداً
 عليا يمكن لها أن تطاول حتى القنصل، إن لم يمتثل لأوامرهم، وتهديده بالقتل إذا كرَّر طلبه تقطيع جثة خاشقجي خارج مكتبه، على الرغم مما يشكله منصبه من تمثيلٍ لسلطة بلاده في الخارج. مع تلك الميكانيكية، ومع تقمّص القتلة أدوار المجرمين في أفلام الرعب، وتبنّي سادّيتهم في التقطيع على أنغام الموسيقى، لم نرَ التعاطف الغربي مع قضية خاشقجي وقد انسحب على الداخل السعودي، حيث لا يصعب على يد القتل الماهرة تلك أن تمارس عملها يومياً، وبكدٍّ، لاستهداف مواطنين لا يجدون من يثير قضيتهم. ومن المرجّح، والحال هذه، وبعد أن تنتهي تفاعلات قضية خاشقجي، أن تبقى قضية الشعب في السعودية ماثلةً، وأن يبقى القتلة يمارسون عملهم على مدار الساعة، وبشكل آليٍّ ومفزع، من دون أن يخطر على بال المندّدين، هذه الأيام، المطالبة بفتح سجلات المغيبين في السجون السعودية، لأنهم يعرفون أن فتحها سيسفر عن واقعٍ مخيف، لا قِبَل لهم في التعامل معه، كما أنه لا يمكن ضمان استمرار مصالحهم إن هم طالبوا.
وإنْ كان لافتاً رد فعل قادةٍ كثيرين في الغرب والعالم، وكذلك منظمات حقوق الإنسان، وحتى مواقف المنظمات المالية وبعض الشركات التجارية التي قاطعت الفعاليات الاقتصادية السعودية، فإن ذلك لن يكون كافياً إن لم يتحلّ بالجذرية. كما أن حالة خاشقجي ستتكرّر كل يوم، وسيكون واحداً من أبناء الشعب في السعودية أحد ضحايا هواة القتل، إن استمر التعامي عن واقع حقوق الإنسان في المملكة وعن الحرمان اللذين يُعتبران قضيةً حان الوقت لوضع المصالح جانباً من أجل إثارتها.
46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.