جريمة تونس .. تطهير ثقافي يُنكر التاريخ

20 مارس 2015

تونسيون يتظاهرون ضد الإرهاب أمام المتحف (18 مارس/2015/الأناضول)

+ الخط -
تستوقف المرء العملية الإرهابية التي وقعت في تونس، الأربعاء 18 مارس/آذار الجاري، وقضى فيها 24 مدنياً، أغلبهم سياح أوروبيون، وأصيب نحو خمسين من جنسيات مختلفة. وقد استهدفت العملية المزدوجة حافلتين تقلان سياحاً، وزوار المتحف الوطني باردو الذين احتجزوا رهائن، قبل أن يتم تحريرهم والقضاء على المقتحمين. وقد لوحظ أن بعض من وجدوا مصادفة في (عين) المكان لجأوا إلى المبنى المجاور الذي يضم البرلمان التونسي، على مبعدة أربعة كيلومترات من قلب العاصمة تونس.
اكتسب المتحف الوطني شهرة عالمية، بفضل مجموعة الفسيفساء فيه، والتي تعد الآثار "الأكثر تنوّعاً وتفنّناً في العالم"، ويضم المتحف أجنحة وقاعات عديدة، أهمها قاعة قرطاج، المتحف العربي، قاعة الشاعر فيرجيل، قاعة المهدية، قاعة الفسيفساء المسيحية، كما تذكر ذلك دائرة معارف الإلكترونية ويكيبيديا.
بهذه العملية التي نسبت للقاعدة، يستكمل الإرهاب في تونس حملته التي بدأها في العراق، باستهداف الآثار والمتاحف. ينكر الإرهابيون الذين يرفعون لواء الدين تاريخ المنطقة الذي سبق ظهور الإسلام وواكب انتشاره. لم يُعهد في الفتوحات الإسلامية أن تم استهداف معالم تراثية وروحية لغير المسلمين. وبهذا، فإنه في ذروة تصدر الدين وانتشاره، كان الاحترام قائماً لمعتقدات الآخرين ومأثوراتهم.
ارتكب إرهابيو الأربعاء الأسود في تونس فعلة نموذجية بالفعل: فقد استهدفوا مدنيين أبرياء، حداهم الفضول ومحبة الديار التونسية لزيارة هذا البلد الإفريقي/ المتوسطي، الذي لطالما عرف عن شعبه أريحيته في استقبال ضيوف بلاده من شتى أنحاء المعمورة. كون هؤلاء الضيوف، في معظمهم، أوروبيين مسيحيين (صليبيين في عرف القاعدة ومن لفّ لفها)، فهذا يضعهم في دائرة الاستهداف. ويعيدنا الصراع الديني على هذا النحو الفج والعاري إلى القرون الوسطى أيام كانت كنائس تنكل بمسيحيين وغير مسيحيين بداعي الهرطقة. وتمّ خلال ذلك استهداف
 ذاكرة وطنية تاريخية متمثلة بالمتحف، بداعي أن تاريخ ما قبل الإسلام يتعين تقويضه وكأنه لم يكن، مع أنه كان، ولا يملك أحد إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء.
ومن اللافت، حقاً، أن الإرهاب، وقد كان يتخذ من قبل سمتاً سياسياً واهياً وزائفاً، قد أخذ في الآونة الأخيرة ينحو منحى التطهير الثقافي. يغفل هؤلاء الفعلة أن مواطني البلاد وجلّهم من المسلمين ينكرون عليهم دواعي فعلتهم، ويطعنون بها، قبل أن يدينها غير المسلمين.
وكان زعيم حزب النهضة، راشد الغنوشي، أشد سخطاً في إدانته الجريمة، بعد ساعات من وقوعها، من بقية السياسيين، حين قال إن "الشعب سوف يدوس بالأقدام هذا الإرهاب". ليست هناك إساءة للإسلام والمسلمين أسوأ من هذا التوحش الذي ينعزل مرتكبوه عن بقية العالم والأسرة البشرية، وهو ما يفصح عنه التصريح الساخط للزعيم الإسلامي البارز. وإلى ذلك، فهذا التصريح بالغ الأهمية والدلالة من الناحية السياسية، فـ"النهضة"، تبعاً لهذه الرؤية، لن تكون بيئة لقبول هذا التطرف الدموي أو إنتاجه. القطع مع الإرهاب بهذا الوضوح الساطع يمنح الأمل للتونسيين بأن التعددية لن تكون ذريعة لتسلل التطرف الأعمى باسم الدين، كما ينبغي أن لا تكون مدخلاً لعودة الاستبداد أو الأحادية الحزبية والسياسية والنقابية. ومن المفارقة الدالة أن من انتابهم الذعر من المارة، حيال هذا الهجوم الإرهابي الذين صودف وجودهم في المكان، قد لجأوا إلى مبنى البرلمان المجاور. وبالفعل، نجا هؤلاء بلجوئهم إلى بيت الشعب، فشعب تونس اختار طريقه عبر الثورة والعملية الديمقراطية والانتخابية التي صعّدت إسلاميين وغير إسلاميين، لتمثيل شعبهم، وقد قُضي الأمر. باتت كل أشكال العسف والقسر من الماضي، وأن يلجأ إليها إرهابيون موصوفون فذلك يدل على أنهم خارجون عن شعبهم وعليه، ويكررون أسوأ صفحات الماضي، وبصورة مضاعفة، أكثر مجلبة للسخط والمقت.
ولا شك، الآن، أن هذا التحدي يقع في مقدّم التحديات السياسية والأمنية التي تعترض أفضل قصة نجاح للربيع العربي في الديار التونسية. منذ حرب أفغانستان الجهادية ضد الوجود السوفياتي في الثمانينات إلى ازدهار الجماعات الأصولية في البلد المجاور، الجزائر في تسعينات القرن الماضي، إلى نشوء "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي (العربي)"، وحتى تشكيل داعش وظهورها، فإن تجنيد تونسيين في هذه الجماعات كان يتم على قدم وساق، وخصوصاً أولئك الذين يعيشون على هامش المجتمعات الأوروبية، حيث يقيمون.
وقد سبق أن صرحت خبيرة عسكرية تونسية (بدرة فعلول) لصحيفة القدس العربي أن "الإرهاب استوطن تونس. وأن المتشددين موجودون بكثافة داخل الأحياء، محذرة من وقوع عمليات انتحارية في مدن تونسية". ثبت أن تحذير الخبيرة في محله. مع ملاحظة أن الجريمة الجديدة تتساوق مع الأداء الإرهابي لداعش في العراق خصوصاً، وبدرجة أقل في سورية، من حيث استهداف الآثار والمتاحف وغير المسلمين. في محاولة لتغيير هوية البلاد واختزالها قسرياً في بُعدٍ واحد، ووفق رؤية ظلامية لهذا البُعد، فلا أحد يشكك في أن المسلمين هم غالبية السكان في العراق وتونس، لكن ذلك لا ينفي الاختلاط القائم مع المواطنين غير المسلمين الذي استوطنوا البلاد قبل الميلاد. ولا ينفي التاريخ المديد لهذه البلاد الذي شكلته أقوام وأديان شتى
 تركت آثارها وبصماتها في المتاحف والآثار، وفي نسق الحياة الاجتماعية والثقافية من مأكل وملبس وموسيقى وغناء وعادات. والاختلاط والتداخل ما زالا سمة لتدافع الحية البشرية، فالإسلاميون المتشددون ممن جنحوا إلى الإرهاب لجأوا إلى البلاد الأوروبية، وأقاموا فيها، ولم يقصدوا تلك الديار سياحاً، مقارنة بالسياح الأوروبيين الذين يقصدون تونس ودولاً مغاربية للزيارة، وقلما يقيمون فيها إقامة دائمة، كحال ملايين المسلمين الذين يقيمون في "بلاد الصليبيين"، ويتمتع شطر كبير منهم بجنسيات تلك البلدان. وإلى الهجرات والاختلاط، لا يدرك الإرهابيون الاعتمادية المتبادلة التي تسم عالمنا. فهؤلاء يستخدمون تقنيات الاتصال التي ابتكرها الغرب وينتجها، ولا مناص لهم من استخدامها ويتطببون بأجهزة أنتجها الغرب، ويستخدمون السيارات الغربية، ولا يستغنون عن ساعة اليد أو الدواء المسكّن للآلام.
في بلد كتونس يهدده الإرهاب، فإن تماسك المجتمع، وعدالة القانون وعموميته، ونهوض الاقتصاد لمكافحة الفقر والبطالة عبر خطط تنموية طموحة، يتقاسم فيها الجميع الأعباء، تعتبر وصفات نموذجية لتطويق الإرهاب واستئصاله، من دون التقليل من أهمية المواجهة الأمنية، والثقافية مع شراذمة الإرهابيين، ولعل الإسلاميين في "النهضة" واجدون أن مصلحة وطنية عميقة تجمعهم مع بقية المكونات السياسية والاجتماعية في التصدي الثقافي لهذا الخطر الذي يمثل طعناً لصورة الإسلام وحقوق المسلمين، كما لواقع التعدد الاجتماعي والثقافي، والحقّ بهذا التعدد، فالأحادية السياسية والحزبية والأيديولوجية تجافي طبيعة عصرنا، وتضع عقبات كأداء في وجه التقدم الشامل الذي يجني الجميع ثمراته.