جرائم الاستخبارات الأميركيّة: هل يطويها الزمن؟

02 يناير 2015
الاستخبارات الأميركية استخدمت التعذيب للحصول على معلومات (Getty)
+ الخط -

لم تتوقف ردود الفعل حتى الآن في الولايات المتحدة الأميركية حول "تقرير التعذيب" الذي صدر عن لجنة الاستخبارات الأميركية في مجلس الشيوخ، في التاسع من الشهر الماضي، حول انتهاكات حقوق الإنسان وكذب "وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية"، (سي آي أي)، على الكونغرس الأميركي، لكن حدّتها خفّت، خصوصاً في وسائل الإعلام.

وفي الوقت الذي احتدم فيه الجدل بين الديمقراطيين والجمهوريين في الكونغرس، حول ما إذا كانت سبل التعذيب المستخدمة قد أتت بثمارها وحصل الأميركيون على "معلومات قيّمة" من المحتجزين الذين تم تعذيبهم وبأبشع الطرق على مدار سنوات، يبقى السؤال المطروح عن إمكان محاكمة المسؤولين، حتى وإن أغلقه البيت الأبيض بموافقة الرئيس الأميركي باراك أوباما.

وكانت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية قد نشرت مقالاً افتتاحياً بعنوان "حققوا مع المسؤولين عن التعذيب ورؤسائهم"، ‪ دعت فيه إلى محاكمة نائب الرئيس السابق، ديك تشيني، وزمرة من المحامين والمحيطين بالرئيس السابق جورج بوش الابن، كديفيد أدينغتون، السكرتير العام لتشيني، ورئيس وكالة الاستخبارات السابق، جورج تينت، إضافة إلى الذين قاموا بالتعذيب.

ورصد المقال دعوات إلى أوباما لاتخاذ خطوات للكشف عن الخروقات للقانون الدولي والأميركي في ممارسات الاستخبارات المركزية. إلا أن هذه التحقيقات تبقى حبراً على ورق، خصوصاً بعد إعلان الإدارة الأميركية ووزارة العدل عن عدم نيتهما تقديم أي من المسؤولين إلى المحاكمة أو القيام بتحقيقات حول الأمر. وكان أوباما قد قال في هذا السياق إن على الأميركيين "النظر إلى الأمام لا إلى الوراء"، الأمر الذي انتقدته الصحيفة وتساءلت: "كيف يمكن النظر إلى الأمام من دون أخذ العبر من أخطاء الماضي؟".

وتطرّق مقال "نيويورك تايمز" كذلك إلى وحشية التعذيب والأساليب التي استخدمتها وكالة الاستخبارات، في الأعوام 2002 إلى 2009، ضد المشتبه بضلوعهم بالإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001، والذين تبيّن أن 26 منهم على الأقل كانوا أبرياء.

وعرض المقال طرق التعذيب المستخدمة، والتي وردت في تقرير مجلس الشيوخ، كـ"التغذية القسرية الشرجية، وتهديد المحتجزين باغتصابهم واغتصاب أفراد من عائلاتهم، والحرمان المتواصل من النوم على مدى أيام، والإغراق، ودفنهم بتوابيت"، وغيرها من السبل الممنوعة بحسب القانونين الدولي والأميركي واتفاقية جنيف واتفاقية مناهضة التعذيب الصادرة عن الأمم المتحدة والتي انضمت إليها الولايات المتحدة في العام 1994.

وفي السياق نفسه، وجّه "الاتحاد الأميركي للحريات المدنية" ومنظمة "هيومان رايتس واتش"، رسالة مشتركة لوزارة العدل الأميركية، طالبا فيها القيام بتحقيق جنائي وتقديم المجرمين إلى العدالة، وذلك على الرغم من إعلان الوزارة عن عدم نيتها القيام بذلك.

وعلى الرغم من انتقاد الأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان لممارسات الإدارة الأميركية، لكن لا يبدو أن الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، عازم على اتخاذ أي خطوات فعّالة في هذا الاتجاه، على الأقل في الوقت الحالي.

وكانت الولايات المتحدة شهدت جدلاً حادّاً بعد صدور التقرير، وحاول المدافعون عن ممارسات الاستخبارات الأميركية تبرير استخدام وسائل التعذيب عملاً بمبدأ "الغاية تبرر الوسيلة"، من دون أن ينكروا وحشيتها، ولكنهم ادّعوا أنها أدت إلى الحصول على معلومات قيّمة قادت إلى العثور على زعيم تنظيم "القاعدة" أسامة بن لادن. لكن هذا الأمر كذّبته رئيسة لجنة مجلس الشيوخ المسؤولة عن التقرير، السيناتور دايان فاينستاين.

وضمّت جوقة المدافعين عن "شرعية" التعذيب، عملاء سابقين في وكالة الاستخبارات المركزية ونواباً في الحزب الجمهوري، إضافة إلى وسائل إعلام أميركية واسعة الانتشار كـ"فوكس نيوز"، التي خصّص العديد من مذيعيها برامجهم للدفاع عن انتهاكات حقوق الإنسان والتعذيب بحجة "أن سبل التعذيب المستخدمة لها أهدافها ومبرراتها السياسية، وأتت بعد هجمات سبتمبر التي هددت الأميركيين وأمنهم".

وعلى ما يبدو، فقد أتت هذه الادعاءات بنتائجها عند الكثير من الأميركيين، إذ أظهر استطلاع للرأي حول الموضوع، أجرته قناة "أي بي سي" وصحيفة "واشنطن بوست"، "أن 59 في المئة من الذين شملهم استطلاع الرأي، يؤيدون استخدام التعذيب ضد الإرهابيين إذا ما أدى ذلك للحصول على معلومات مفيدة".

ومن اللافت، بحسب استطلاع الرأي، "أن 39 في المئة من الديمقراطيين يؤيدون استخدام التعذيب، في مقابل 82 في المئة من الجمهوريين".

وزاد التقرير من عمق الهوّة بين الديمقراطيين والجمهوريين، ومن المرجّح أن تكون هذه القضية على سلّم أولويات الانتخابات الرئاسية المقبلة، لا سيما أن الأكثر حظاً للترشح عن الحزب الديمقراطي حتى الآن، هيلاري كلينتون، كانت قد أعلنت في الماضي تأييدها لعمليات التعذيب "في حالات نادرة". وقد يزيد هذا الأمر الضغط عليها لأخذ موقف أكثر حسماً من إدارة أوباما، من قِبل الناخب الديمقراطي.

وكانت فاينستاين قد وصفت التقرير بأنه "يظهر أن تصرفات وكالة الاستخبارات المركزية قبل عقد من الزمن هي وصمة عار على قيمنا وتاريخنا". لكن تاريخ الوكالة حافل بممارسات وخروقات لحقوق الإنسان، بل إن هذا التقرير ليس الأول من نوعه، ومن المستبعد أن يكون الأخير الذي يقدّم شهادة دامغة على ممارسات بشعة وغير قانونية قامت بها الوكالة.

فقد أظهرت تقارير صحافية مسرّبة سابقاً، تورّط الاستخبارات المركزية، إضافة إلى جهاز التحقيقات الفدرالي "إف بي أي"، ووكالة الأمن القومي، "إن إس أي"، وبموافقة من الرئيس الراحل دوايت أيزنهاور، في عمليات تخطيط لقتل رؤساء دول أجنبية عدة، من بينهم الرئيس الكوبي السابق فيدل كاسترو وقادة آخرون في فيتنام والكونغو وتشيلي، إضافة إلى ملاحقة مواطنين أميركيين معارضين للحرب على فيتنام والتجسس عليهم.

وعلى الرغم من أن هذا التقرير لم يُنشر بشكل كامل إلا بعد أربعة عقود، حيث نُشرت 50 ألف صفحة منه في العام 1992، إلا أنه أدى إلى القيام بإصلاحات، من ضمنها منع اغتيال رؤساء دول أجنبية، والحد من الكثير من "استقلالية" وكالة الاستخبارات.

ولكن جاءت "الحرب على الإرهاب"، التي قادها بوش الابن في عهده، لتكون ذريعة لتغوّل الأجهزة الأمنية والاستخباريّة الأميركية في القيام بخروقات لحقوق المواطنين الأميركيين وللمعاهدات الدولية.

المساهمون